فرنسا - جوزيه حلو
- لم يَعُدْ فيَّ حيّاً غير القلم: قال أنسي الحاج.. ورحل

أنسي الحاج، كما في الكتب المقدسة، كنتَ متيقناً أنه لا موت ولا حياة، لا ملائكة ولا رؤساء ولا الأشياء الحاضرة، ولا الأشياء الآتية ولا أي قوة تستطيع أن تمنع ساعة الفراق... لم تعد بيننا وهذا واقع! واقع من إيمان غامض يأخذ منا كل الأحبة الواحد بعد الآخر، لم يعد بيننا غير «خواتم3» وموتكَ، لم يعد بيننا غير نفاق الكتب وأحباء اختطفتهم منا الحياة إلى الأبدية. نركض إلى ذلك المعبد الذي احتوى جسدك الجميل... نصلي بقصائدك للخلود وننتظر أن يمرّ هذا الوقت البطيء على أرضنا العنيفة التي باتت توحي بالحذر من كل شي.

أنين جرحى الأوطان المهجورة يودعكَ
كما تودعكَ بحيرات طيور البجع السوداء
وكؤوس النبيذ الحزينة يسكبها القمر
على أجساد عطرها أقحوان



■ ■ ■


أسألك أنسي الحاج أن تخبرنا: "ماذا يحدث عندما نموت؟" نميل بطبيعتنا إلى عدم تصديق الخبر: رغباتنا، مخاوفنا، معتقداتنا أو المعتقدات السابقة لدينا.. خرجنا من عالم الكرتون إلى عالم الوعي والوعي كان أصعب مما كنا نتوقع.
سوف أخبركَ عن مكالمتي الهاتفية الأولى معك:
عرّفتك باسمي وأنني حائزة بكالوريوس تمريض في الجامعة اليسوعية في زحلة، وأنني شاعرة أيضاً، وطلبتَ مني أن أتحدث أكثر عني لأنني أنا من يعرفكَ وليس العكس، ذكرتُ كم أحب عبقريتك وقصائدكَ وفكرك الفلسفي والسياسي وأنك من عظماء لبنان، وكم تغيّر لبنان منذ الحرب الأهلية وانطوى سكانه بعضهم على بعض في ردة فعل على كل ما حصل.
كنت أتصور وأتوقع كل شيء ما عدا أن تكون أنت نفسك شاعري الحبيب تعيش تجربة الاقتراب من الموت. كل الأخبار تبدو كاذبة وخاصة تلك التي جزمت أنك دخلتَ في حالة غيبوبة: إنها فوضى الدماغ والموت وآراء ومعتقدات طبية أخرى, أما أنا فكنتُ أرى حول وجهكَ الجميل هالة نور سماوي متدفق يُكذّب كل تشخيصات الأطباء وأن كل هذه الأضرار لا رجعة عنها، كان شعوري أنهم اعتقلوا قلمك قبل قلبكَ، وأنه لم يحن بعدُ موعدنا الأخير معكَ: كنت أرغب بمداواة جراحكَ بالأعشاب، بالبخور والزيوت المعطٌرة لو عجز الطب الكلاسيكي، كان لا بدّ من معالجتك بطب آخر:
ـ La Sophrologie
- L’acupuncture
- La Médecine douce
- La Kinésithérapie
ـ الأوكسيجين
ـ المحبة
ثلاثة هواجس صارت تلازمني:
عدوان تموز 2006 ضد لبنان
ـ موت شقيقتي الحبيبة جانيت 2009 (التي كانت تحب الشعر بجنون)
ـ رحيل الشاعر الكبير أنسي الحاج 2014
كتبت أكثر من مرة في تعليق على نصوصه: هل يدرك مدى السعادة لمن أسعفه الحظ، والتقى أنسي الحاج أو شرب معه فنجان قهوة أو سمع صوته، أو طلب منه خدمة. السعادة التي تغمرنا أننا نعيش في عصر أنسي الحاج كما عاش غيرنا في عصر المتنبي أو جبران أو سارتر أو بودلير وبروست ووو..
صعب تصديق أن أنسي الحاج ممكن أن يُصاب بمرض خطير ظناً منا أنه مُحاط بملائكة ليلاً ونهاراً وأنه يقضي وقته بين عمله في مكتب الجريدة ومنزله في الأشرفية. أنسي لا يشبه أحداً من البشر، ومع هذا كان منهم. دمرّني خبر وفاة أنسي الحاج إله الشعر. كتبت أكثر من مرة "معلّقة" حول نصوصه أن أنسي الحاج أجمل اسم في لبنان "أنسي الحاج آخر أنبياء الشعر" كما سمّاه حسام حنوف أو "أنسي الحاج اللبناني الأخير" (بقلم إلياس خوري) و"أنا أنسي الحاج أريد العودة إلى رأسي" (عقل العويط). أنسي الحاج الذي لم يرضَ بحياة اصطناعية.


■ ■ ■


بتاريخ 28/12/2013/ كتب أنسي الحاج وللأسف الشديد آخر نص في حياته «ملامح امرأة صاعدة»، كنا نظنّه كعادته في إجازة أعياد الميلاد ورأس السنة الجديدة. غير أنه كان في حالة صحية سيئة للغاية بين الحياة والموت وحرصاً على راحته واحتراماً لحياته الخاصة، لم نسأل أكثر ولكننا كنا على خطأ، ومع هذا أشكر ألله من أعماق قلبي أنه منحنا أنسي الحاج في عصرنا نموذج الإبداع المطلق لكل الأجيال اللاحقة.
ما أعطانا إياه الخالق عاد واسترجعه، فتغيرت ملامح «كنيسة مار يوسف الحكمة» في الأشرفية. تغيرت بيروت والشعر وقيتولي (قضاء جزّين). تغيّر وجه العالم أقله سنة 2014
يا شفير هاويتي
أنسي الحاج


■ ■ ■


لن أكون بينكم
لأن ريشةً صغيرةً من عصفورٍ
في اللطيف الربيع
ستكلّل رأسي
وشجر البرد سيحويني
وامرأة باقية بعيداً ستبكيني
وبكاؤها كحياتي جميل
ولم أتحطّم لكنّي تعبت
أنسي الحاج


■ ■ ■


في رئتيكَ هويتي
وتجربتي متعة أضيع فيها وحدي
عُرْي حواء يُغريك
كفينوس التي ولدت في البحر
شاعر الغيبوبة على الشفتين
رغبات تغتصب الذنوب بالصمتِ
مقيدة أنا بسلاسل ذلك الليل
(من قصيدتي:"
من أُنثى إلى أُنسي: كيفَ أنسى ؟)



بقيت لهفتي لكَ وللأقفاص المفتوحة ولعابرات أنسي الحاج وليوم السبت : جزء من قوة خفيّة جمعتنا في كلماتكَ: «هنا تُقيم الأرواح نضيرة، مستعدّة، ولا شيء يعود إلى التراب، والأقفاص جميعها مفتوحة».