ليست «يا دمشق وداعاً: فسيفساء التمرد» (منشورات غادة السمّان) رواية متخيلة. تمتزج فيها حيوات غادة السمّان مع النبض الروائي المركب. هذه الرواية هي الجزء الثاني من «الرواية المستحيلة ـــ فسيفساء دمشقية» (1997) وفيها خمس «محاولات» لكتابة الرواية، ولذا يبدأ هذا الكتاب بـ «المحاولة السادسة». تلزمك الكاتبة السورية الدخول في محراب التمرد الذي رافقها من دمشق إلى بيروت. زين الخيّال التي تتكلم غالباً بصيغة الغائب، هي محور الرواية وإيقاعها إلى جانب والدها أمجد وغزوان الشاب الفلسطيني الذي أحبت. تعكس الرواية في المرتبة الأولى معاناة المرأة في المجتمع الدمشقي المحافظ الذي كانت زين جزءاً منه. كل شيء داخل تركيبته المجتمعية يخضع للرقابة لا سيما النساء المتمردات على التقاليد والعادات والدين.
لا تحمل الرواية الإطار الاجتماعي لشخوصها فحسب، بل ثمة أيضاً زاوية سياسية مظلمة طبعت حقبة بكاملها وكادت زين أن تدفع ثمنها، وهي الكاتبة والصحافية المتمردة على الكبت الاجتماعي والقهر السياسي.
بعد قصة زواج من وسيم الذي اختارته، تقرر زين الانفصال عنه. قبل إعلامه بقرارها، تجهض طفلها وتحتفظ بسرها. أرادت قطع صلة الرحم معه وإلى الأبد. هنا تبرز شخصية الدكتور رهيف المناهلي الذي أجرى لها العملية وهو صديق والدها. دعمها الدكتور معنوياً وساعدها لاحقاً في الهروب من دمشق بعد ملاحقة المخابرات السورية لها بدعوى أنها عميلة ألمانيا.
ظنت أنه لا يعرفها، فهي لم تره منذ فترة طويلة. يتصاعد مستوى آخر من التعقيد في الرواية. يعشق المناهلي زين في سرّه، ولا يبوح لها بذلك. رجل متزوج من طبيبة فرنسية اشترط عليها عدم انجاب الأطفال ووافقته على ذلك. صداقته المحببة مع زين دفعته إلى تبديل خياره وأخبرها بعد جلسات حوارية بينهما كم يحب زوجته وأنهما اتفقا على الانجاب.
تشي الشخوص النسائية بثقل المحظورات التي تحاصرهن

بعد الانفصال عن الزوج الذي لا يظهر في الرواية إلا بأسلوب شديد الرمزية يصل إلى حدود الإمحاء، تصف زين ردة فعل المجتمع المحافظ على خبر طلاقها. كيف يمكن الغفران لـ «حرمة» من أسرة محافظة لم تعتد على تشبّث امرأة بالزواج من رجل معيّن لأنها تحبه وثم الطلاق منه بعد أشهر لأنها لم تعد تطيقه؟ لم تتقبل البيئة الدمشقية خبر طلاق زين. ليست دمشق وحدها بين العواصم العربية التي تعادي لغة العشق. وليست وحدها التي تحاصر المطلقات اللواتي يُنظر إليهن بسلبية مدمرة واشتهاء مضمر. ورغم التحولات الطفيفة التي شهدتها المجتمعات العربية في سياق تقبل العلاقات بين الجنسين، ما زال الحب خارج القيد الرسمي من المحرمات. تشي الشخوص النسائية في الرواية بثقل المحظورات التي تحاصرهن، وإن تمردن بصمت عليها، وآثرن الخروج على التقليد الاجتماعي كما فعلت «فضيلة» قريبة زين.
لا يبدو أن القطيعة مع دمشق كانت نهائية. اعتقدت زين أنها قطعت حبل السرة بينها وبين مدينتها، «المدينة الأم اللامنسية» كما تصفها. أصبحت الكتابة حاضنتها الوحيدة، نشطت أكثر فأكثر في ترحالها بين الكلمات، مقالة وأدباً ورواية. تفادت الغرق في الحب رغم عشقها لغزوان الذي التقت به صدفة بعد إجهاضها واستمرت العلاقة معه إثر انتقالها إلى بيروت. تكشف الرواية عن الأجواء السياسية التي عاشتها زين في سوريا قبل انتقالها إلى بيروت. تسلط الضوء على صراع الإيديولوجيات. رفضت كل تسلط سياسي وكل حزبية توتاليتارية. آمنت بالحرية بوصفها النافذة لنهضة المجتمع وأن الأحادية السياسية لا تنتج سوى عزل الأفراد والجماعات عن الدولة. تتباهى بدمشق مع الألم الذاتي. تحدثنا عن تركيبة العاصمة، اجتماعياً وسياسياً وعمرانياً.
«بيروت عاصمة الحرية، ولكن...». هكذا عنونت صاحبة «الجسد حقيبة سفر» الفصل السادس، ما يُنذر القارئ بالحذر أمام الحرية المتاحة التي خبرتها زين. محطة بيروت وضعتها في عالمٍ جديد، مختلف، متناقض، فاعل، شديد الحراك، كثيف، بعد هروبها من سوريا إثر ملاحقة ضابط المخابرات لها نتيجة رفضها الانصياع لرغباته. في بيروت، تعرفت إلى مجتمع آخر. اكتشفت من خلال جامعاتها ومقاهيها وصحفها وشوارعها ودور نشرها عوالم أخرى أكسبتها جرعة إضافية من الحرية: «رئتها الثالثة». كانت بيروت في أوج تألقها الفكري والسياسي زمن الستينيات والسبعينيات. أدركت زين أهمية ذلك وتعاملت معه بهدوء وحيوية.
في بيروت، التقت زين مجدداً غزوان الكاتب والصحافي الفلسطيني. «ثمة شيء ارستقراطي في سلوك ذلك الكادح المناضل الجميل المبدع». تحاشت الذهاب في حبه إلى الحدود القصوى مع اكتشافها لجسدها معه: «نعم قد أحب غزوان ولكنني سأكرهه في آنٍ. فهو مشروع حب كبير أي مشروع ألم كبير». تفتح صاحبة «بيروت 75»، روايتها على مزيد من الاحتمالات. لا نهايات عندها. كل شيء مسكون بالتمرد: اللغة، الوصف، الأحداث، الحب، الموت، السياسة، الوطن، والمنفى الاختياري الذي نقلها إلى رحاب العالم.