تقديم: عبد الله السفر«الحريّة» هي العنوان الذي تنكتب في ضوئِهِ القصيدةُ الجديدة في المملكة العربية السعودية. المساحة شاسعة بلا أسوار والخريطة بيضاء تخلو من التضاريس. ليس ثمّة في العمل من أربابٍ سابقين يتجوّلون بآثارهم وكراسيهم المنصوبة في الغيم، يطابقون ويمنحون بطاقةَ العبور أو يقومون بإغلاق البوّابة؛ فينعمون بشارةِ التميّز أو الإخفاق. المجال مفتوح تماماً والطائراتُ الورقيّة في كلّ مكان، لها من الأشكالِ والألوان ما يرسّخ الاحتفال وبهجةَ اللعب وبداهةَ المبادرة دونَ احتكامٍ إلى سابقةٍ تعمل مثل قيد. انفلاتٌ هائج ترعاهُ الحواسُّ، إذْ تنغمرُ في المجهول. لا رادعٌ يمنعُ عن المضيِّ أو خشيةٌ تنثرُ أشواكَ التردّد.

الخفّةُ التي تُنسِي الأقدامَ تاريخَ الخطوات وأثقالها. العينُ التي تحُلُّ وتركّب وتحكي خافِتَ الضوءِ وما يسرّبه الصمتُ في الزوايا.
باتت المدوّنات والمواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي من فيسبوك وتويتر هي المنصّة التي تتجلّى فيها هذه الحريّة. في فضاءٍ مفتوحٍ ومُشرَعٍ على التنافذ، لم تعد الكتابة حبيسةَ الأدراج والغرف المغلقة أو رهنَ الانتظار تتحيّن فرصةَ النشرِ أو رحمتَه. كما ولّى إلى غير رجعة دورُ الرقيب الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي يفحصُ النصَّ ليتأكَّد من خلوِّهِ من علامات الخطر التي تقضُّ مضجع الأبويّة. هذه الأبوية التي تريدُ الحياةَ ــ ومعها النص ــ منسجمةً مع العينِ المحافظة ونظرتِها التفقديّة. تعزلُ ما تظنّهُ نشازاً أو غريباً أو هذياناً؛ يعكّر ماءَ الكتابة الذي كادَ أن يأسَنَ لفرط بقائِهِ في البحيرةِ ذاتها، لا يتجدّد ولا يتصلُ بمصباتٍ تقلبُ أعماقَهُ وترجُّ ركودَه. لقد تهاوَتْ بوابةُ الناشر التقليديّة وترنّحتْ طاولةُ الرقيب. في ضغطة زر إرسال send تباشِرُ الكتابةُ حضورَها وتمثُلُ في هواءِ التفاعل القِرائي إنْ بالإعجابِ أو عدمه أو بالتعليق أو حتّى بالإهمال من أي مؤشّر (الحريّة، أيضاً، للقارئ بلا وسيطٍ أو مرشّح filter). أضحى النصُّ خارج الغرف المعزولة. مختبرُ الكتابة مكانُهُ ليس في صومعةِ المكتبة الشخصيّة أو الجريدة أو المجلة ولا في حلقات الأصدقاء المنزليّة. على قارعةِ الشبكة العنكبوتيّة، أقامت الكتابةُ مختبرها، متخففةً من سيماء الجديّة، مطوّحة بأسرارِها، وضاربةً صفحاً بذكرى العنَت وعُسْرِ إيلاجِ الحرفِ في الصفحةِ البيضاء. طواعيةٌ واسترسالٌ ورشاقةٌ وتلقائيّةٌ في قنصِ الحالات والأفكار. كأنما نبعُ الكتابةِ أصابَهُ انفجارٌ هائل؛ فتعدّدَت السواقي والمشارب وطابَ لفلاّح الكتابة أن يضعَ بذارَهُ وأن يزرع شجيراتِهِ مطمئناً لغزارة النبعِ وحلاوتِهِ.
لم تكتسب الكتابة عبر وسيط النت طابَعَ السهولة والمواتاة في جميع الأحوال وحسْبُ. إنما تخلّقتْ، هذه الكتابة، بحسٍّ تجريبي اختباري مدفوعةً بنسائم الحريّة وتطامن السقوف وتلاشي القيود. ومعها أيضاً شفّتْ الحدود بينَ الأجناس الأدبيّة والفنيّة، وتعزّزت أكثر بالتدافُعِ الخلاق يشتركُ فيه أكثر من اسمٍ ومن أعمارٍ مختلفة لا تحتكم إلى جيلٍ محدّد ولا يمنعُها من التواصل اختلافُ ذائقةٍ ولا أعباءُ شهرةٍ أو معازلُ جغرافيا. يشترك هؤلاء جميعاً في ورشةِ عصفٍ إبداعيّة، نتاجُها مطروحٌ أوّلاً بأوّل. نتاج يأتي في طلاقةٍ وسيولةٍ، وفي انفتاحٍ للتجربةِ لا يني يتوسّع ويتمدّد إضافةً وإغناءً، سواء للرصيد الشخصي بتمتين التجربة ورفعِها إلى مدارٍ أبعد، أو لتزخيم حراك القصيدة الجديدة. هذا الحراك يمثّلُ تيّاراً عريضاً يؤشّرُ إلى نقلةٍ نوعية شديدةِ التماسك، لها من النضج ما يجعلُها في سُدّة الحضور والتأثير في مدوّنة الكتابة المحلية والعربيّة، وقبل ذلك في كتاب الشعر. في ما يلي مختارات لقصائد شابة وتجارب من الجيل الجديد في الشعر السعودي، الذي وإن احتفظ بحساسيات محلية معينة، إلا أنه خرج إلى فضاءات أبعد، وبات يتنفس في الهواء الشعري الذي تتنفس فيه تجارب عربية أخرى:

ماجد العتيبي

/1/
بين قلق الاحتمال وصراحة الممكن
يأتي الشعرُ مبللاً بالشكوك
وتقف الفكرة الجديدة على الحوافِ بعكازين قديمين
وحفنةٍ من الظنونِ لا تكفي لاختبار جودة الداخل
بينما اليقين الفالت من فخ السمنة
يصبحُ نحيلاً بما يكفي لينزلق من تحت الباب
ويذوب في غمرة الخارج
حينها فقط تصبحُ النافذة عادة منزلية لا أكثر
والحائطُ وضعٌ مستقرٌ لخلافٍ دائمٍ
حول من أتى أولاً ونصب خيمته
حتى الصبيةُ التي حان دورها في القصيدة
تتركُ كيس الموسيقى خلفها
وتركضُ نحوَ الإيقاع العالي لصوتِ أمها
كي تكنس الصالون وتُعدُّ عشاءَ إخوتها
تعودُ الصورُ من حيثُ أتت، ويبقى الشاعرُ وحيداً في قصيدته يحاولُ الخروج.

/ 2/
أمد يدي في جيبي وأجد جمجمة رجل كان يواعد بنتاً لطيفة.
أمد يدي في جيبي الآخر وأجد بقايا سيجارة لرجل يدخن وحدته، انتفض...
أخلع ملابسي وأستحم لأغسل ما علق على جسدي من احتمالات وتوقع.
أغسل وجهي، أحدق في ملامحي
وأرى قرية تحترق بين نهدي حبيبتي، وراعياً يسوق غنمه صوب خصرها،
أرى إسبانية ترقص الفلامنكو وجماهير تصفق لها فوق ردفيها.
أمد يدي في جيبي كل مرة، حين أرتبك ولا أجد حجة مناسبة لغيابي، فتندلع كل هذه القصص.

/ 3/
هاتوا ضفدعاً أو يداً مبتورة... كي أكتب الليلة عن التناص، وأخرج لكم في اليوم التالي بقصيدة معتبرة عن الطبيعة.
لا تتوقعوا مني إيقاعاً جميلاً مع الحمام والورد، فالأشياء السهلة تجعلني أتعفن.
اتركوني قرب نهد مستأصل بسبب السرطان لأكشف لكم خساسة البلاستيك والمواد الحافظة.
عرّضوني للنحاس، تحاشوا الزجاج معي.
ضعوا قصائدي في كوب ماء كبصلة وانتظروا في الصباح التالي جذورها.
افتحوا محضر سُكْرٍ أو مخالفة سرعة... لكن لا تقحموا البلدية في كل ما يحدث.
استفزوني... لا تُهدوني كرافاتات وساعات فيندي
عاملوني كرجل ينتقي بيجاماته وشورتاته بالصدفة، لكنه يتقن إلقاء المزحات ويغادر الحفل بهدوء.
تجاهلوا قبحي في الممرات وتوقعوا في الردهات وسامتي.
أفسحوا لقصيدتي كل الورق الزائد عن حاجتكم.
والحبر الذي يجف مع الوقت في خزاناتكم.
كونوا إنسانيين أكثر... فقط
ودعوني أكتب بطريقتي.

نور البواردي

المتوحّدة تعرف حقيقة الأشياء

تقول أُمّي: وجودها الدائم قُربَ شُبّاك غرفتها لا يجعلني أودّ مُحاسبتها أكثر على أيامها الفائتة.
يقول أبي:
لا أتَذكّر لونَ وجهها
رغم أنّي حاولتُ مراراً استرجاع اللحظة الأولى الَّتي بَدتْ فيها مُشْرِقةً ثُمَّ خَفتتْ بعدها!
تقول خالتي:
لَمْ أجد الدافع الحقيقي وراء اقتناء ثلاثة عصافير وقطة لئيمة في وقتٍ واحد،
غيرَ أنَّ العُزلة تُولّد رغبات غريبة مِنَ السّخف أنْ نُناقشها معها الآن تحديداً.
يقول أخي:
سمعتها البارحة تتحدّث لِوميضِ شاشتها بِنَبرةٍ هزيلة
كانتْ تُعاتب الضَوء أنّه لا ينام، كانتْ تنصحه بضرورةِ التمدد قربها.
تقول صديقتي:
بعدما قَطعتْ علاقتنا بِسبب «البلوفر الأبيض» توقفتُ عَن التفكيرِ بها
لا تلزمني صديقة تُحاسبني على استغلالِ الحيوانات الأليفة وحياكتها بما يُلائم ذوقي.
يقول حارس العمارة:
لها مَشية مُبهِجة حينما تلمح حافلة ملوّنة
لها أُخرى وقتَ يكون الشارع فارغاً
مشيتها الأخيرة لَمْ تَكُن قدماها تلامسان فيها الأرض أبداً.
تقول خادمتنا:
تغمس أصابعها في بُقعةِ قهوة طريَّة، تبني سوراً تحتجز داخله النمل، تتأمَّل وتضحك.
يقول العالم:
هذا منحى آخر لِفتاةٍ عاديّة تظاهروا أنكم لَمْ تروها!

عبد الله المحسن

سيرة وهمية

الآن بعد سبعة عشر عاماً
أشعرُ بأنَّ جميع الأنبياءِ مرّوا عليَّ
أغرقني الطوفانُ الذي لم أنجُ منهُ لأنني كنتُ وحيداً
وكجميع الصغارِ أردت أن تكون النار برداً عليَّ
لكنها أحرقتني
أنظرُ إلى الأعلى من هذا الجبِّ
وأظنُ أنَّ السماءَ عطشى وستغترفنِي الآن في دلوٍ من الموت
اسمي لا أعرفهُ
وأتذكرُ أني طفلٌ كنتُ أختلسُ النظر للشيطان
وأنا أسجد لآدم

الآن

بعد سبعة عشر عاماً فقط
أشعرُ بأنني عبرت الكثير من السنين
ربما لأنني كنتُ أعدو كثيراً
بين شواهدِ القبور
وأقرأ سريعاً تواريخ الموتِ المنقوشةَ عليها
الآن أشعر بأني كبيرٌ
كبيرٌ جداً
كفأرٍ تعبَ من الركض في دولاب الحياة
محض مسنٍّ صغير
وهذا الحب يجرِّبُ تفاعلاتهِ عليَّ.

أحمد العلي

خُردة

من نافذة مكدونالدز،
أشهر النوافذ
وأكثرها في العالم...
يُطلُّ عليّ ميكانيكيٌّ
خبيرٌ في الشّحم والبراغي
يعرفُ تماماً
كم أنا خُردة.

مافيا ريحان

كان جدّي لوحده قرية
إذا مشى إلى جانبك
تَسمَعُ حفيفَ نَخلٍ غَريب الشمس،
أو كأن مافيا ريحان تهدّد من فوق السطوح...
يُضرمُ الماء في أضلاعك.
دخلَ حياتي
دخول التلفون إلى قريته؛
جديداً مُبهماً، أخو شيطانٍ مارقٍ...
ولا يزال.


هدى المبارك

يوماً ما، سأتقن المجاملة

يذكرني جيّداً
فتاة ذات شرائط، غرّة منسدلة
ووجه نظاميّ!
أبتسم بتهذيب مفتعل
لتعليقات ساذجة
«كسر أخاكِ سيقان أزهاري»
معذرة، سأقصّ من شرائطي عربون أسف
خصلات ستتبعثر على وجهي
بجميع الأحوال، مزاجي عكر دائماً
الزمن كفيل بإفساد مظهري.
أبي يحدّثني شعراً...
يلقي عليّ زمرة أوراق
شبيهة برائحة الجنائز
أسميتهم الدفتر المقبرة والقلم السفّاح
يطوفُ في حجرتي دونما انتباه
لا يراني...
أوقِنُ أنه لا ينطق اسمي
لا يعرف ملامحي
ملامح إنسية شبيهة بالأشباح
بلا شرائط شعر.
أنجبني في رُطوبة أغسطُس المُغرقة
وأنا أعومُ إلى كفيه المنشغلتين عنيّ
لم أتعلّم المشي؛ لذلك سقطت على وجهي
أبي لا تحزن
يوماً ما... سأتقن المجاملة لأقول لك
شكراً لترحيبك الحارّ بي.

عبد الله العثمان

الندبة

الندبة منطقةٌ بعيدةٌ تماماً عن السطح عن اللمس عن اللمعان داخل العين. ولكي أصل إليها عليّ أن أنفرطَ منّي كمسبحة وربّما بإحدى حبّاتها أستطيع أن ألمسها بإصبعي أو بظفري المتورّم. المهم في الأمر أن أخدشَها كما أفعل بحبّة على أنفي تكوّنت بفكرةٍ غاضبة؛ أخدشها كما أفعل بإصبعي مستنهضةً في البحث عن قصيدة؛ فتسقط من شِعري أوراقٌ بيضاء مكتوبٌ عليها: ليس بعد.

حزينٌ بما يكفي

حزين بما يكفي؛ لنملة أن تقف على أنفي دون أن أستيقظ على حزن آخر.
حزين بما يكفي؛ أن تصبح خطوات العمّال أغنيةً حديثة.
حزين بما يكفي؛ خلق عمود إنارة يضيئه الضجر.
حزين بما يكفي؛ أن أتناول الشاي بطيئاً.
حزين بما يكفي؛ أن أفهم أغنيةً إيرانية إيقاعُها جلوسُ أمي.
حزين بما يكفي؛
أن أعبد الفرحَ بأدواتٍ رخيصة.

ضيف فهد


في الطبيعة الخبيثة للمهلة

على الكرسي المقابل تجلس المهلة،
في عينيك مباشرة تنظر مثل بومة
وتعرف أن أمرك سينتهي بانقضائها
المهلة الصامتة، والمحايدة،
المخيفة...
السريعة...
المستفزة...
غير المجدية، والمغرورة
تنتظر مثلك،
دون مشاعر تنتظر...
تنتظر...
لأن هذا عملها وحسب.
أنت تقبل بالمهلة الفخ لأن الأمل أمرٌ غبي... وأنت لم تتأكد من هذا الأمر بعد،
مهلة للتفكير
مهلة للتراجع
مهلة للاعتذار
مهلة لتحسين العادات الغذائية
مهلة للدفع
كل المهل سيئة سُمعة،
وأنت تقبل بها لأن لديك أملاً غبياً دائماً
ستنتصر المهلة عليك في النهاية...
وستطير من الكرسي المقابل بومة الانتظار
وتصطادك مثل جرذ.

خياط يستحق القتل

لو لم يكن خلل في أخذ القياسات
ترى هل يعقل أنني أمتلك ساعدين بمقاسين مختلفين دون أن ينتبه أحد.
لم تنتبه أمي عندما كانت تراقب كل شيء
إخوتي أثناء اللعب
الملائكة أثناء النوم
وكل الناس في أحلامي الذين لم تصدر منهم ملاحظة واحدة حول هذا الأمر
أبي وهو يراقب عاداتي في الأكل
المعلم أثناء الضرب
كل من لوّحت لهم
من عانقت
من دفعت لهم
من تركت يدي معهم لفترة طويلة أثناء المصافحة
الأشياء التي أمسكت بها... الكتب بوجه خاص
أنا...
أنا لماذا لم أنتبه لأمر بهذه الأهمية
كيف لم أنتبه لكوني مشوّهاً
وأمتلك ساعداً أنحف من الآخر، أنحف قليلا
كيف استمر أحدهما دون عطف... وعاملتهما بنفس القدر من الأهمية
لم أقدم له المساعدة عندما كان يحتاجها
ماذا لو كانت هناك لغة خاصة بين الأيدي تسمح لها بالسخرية من بعضها
كيف كان وحيداً ساعدي الأنحف يتلقى يومياً عشرات الكلمات الساخرة من كل هذه الأكف والسواعد التي يمر بها
كيف كان يتجنب نظرات الشفقة
وكيف بمقدوري الآن التعويض عليه!؟