ترجمة جولان حاجي
قافزاً بخطوةٍ فوق بركةٍ من ماءِ المطر في نهايةِ الشتاء، أفكّرُ بحاكمٍ صينيّ قديم

(وكيف لي، أنا المولودَ في أيام النحس
والخارج للتو من الخسارات، أن أسألَ القدرَ اللطفَ بي؟
/ كُتبت سنة 819 ق. م)

بو تشو-آي، أيها السياسيُّ العجوزُ الأصلع،
ما الجدوى؟
أفكّرُ بك،
لم يكن سهلاً ولوجك مضائقَ اليانغ-تزه،
عندما خضتَ الغمارَ المتدافعة
لهذا العملِ السياسيّ أو ذاك
في مدينة تشانغ شو.
فعلتَها، على ما أظنّ،
في الظلام.

هذه سنة 1960، وأوشك الربيعُ يصل مرة أخرى،
وصخور منيابوليس الشاهقة
تشيّدُ لي غروبي الأسود
من المياهِ وحبالِ الخيزران.
أين يوان تشن، الصديق الذي أحببتَ؟
أين البحرُ، الذي وجدَ حلاً ذات مرة للوحدة كلها
في وسط أميركا؟ أين منيابوليس؟ لا أستطيع أن أرى شيئاً
إلا شجرةَ البلوط الكبيرةَ المرعبة وقد أعتمتْ في الشتاء.
هل عثرتَ على مدينةِ المنزوين وراء الجبال؟
أم لا تزال ممسكاً بطرفِ حبلٍ مهترئ
منذ ألف عام؟

مستلقياً على أرجوحةٍ شبكية في مزرعة وليم دافي في باين آيلاند، مينيسوتا

فوق رأسي، أرى الفراشةَ البرونزية،
نائمةً على الجذعِ الأسود،
تتمايلُ كورقةٍ في الظلِّ الأخضر.
في الوهدةِ وراء المنزل الخالي،
أجراسُ البقرات تتوالى واحداً إثر الآخر
في المسافاتِ ما بعد الظهيرة.
إلى يميني،
في حقلٍ من ضوء الشمس بين أشجار الصنوبر،
روثُ أحصنةِ العام الفائت
يتوهّج صائراً حجارةً ذهبية.
أعاود استلقائي، فيما المساءُ يحلُّ ويعتِمُ.
صقرٌ يطفو عالياً، باحثاً عن البيت.
لقد ضيّعتُ حياتي.

الجوهرة

ثمة هذا الكهف
في الهواءِ وراء جسدي
لن يلمسَهُ أحد:
صومعةٌ، صمتٌ
يلتئمُ حول زهرةٍ من نار.
عندما أقفُ منتصباً في الريح،
تتحوّل عظامي إلى زمرداتٍ غامقة.

رسالةٌ مخبَّأةٌ في قنينةِ نبيذ فارغة رميتُها إلى أخدودٍ حفرَهُ المطر بين أشجارِ القيقب ذات ليلةٍ في ساعة عربدة

نساءٌ يرقُصْنَ حول النار
قرب بركةٍ من الزيوت ومياهِ المجاري الآتيةِ من النهر
في ضبابِ أوهايو النديّ.
إنهن ميّتات.
أنا وحدي هنا،
وأمدُّ يدي إلى القمر الذي يتدلّى
بارداً من داليةٍ معتمة.
الظلال غير المغسولة
لمصاهر الحديد في ماوندزفيل، وِسْت فرجينيا،
تتسلّل بين حُفرِ مناجم الفحم
كي تسرقَ العناقيد
في السماء.
لا أحدَ سواها يعرف أنني هنا.
حسناً.
اخرجي، اخرجي، فأنا أحتضر.
أنا أشيخ.
بومةٌ ترفرفُ
عن النصلِ القاطع
لحصّادةِ تبن.

مكتئباً إثر كتابِ شعر رديء، أمشي إلى مرعى مهجور وأدعو الحشرات لتنضمَّ إليّ

مرتاحاً، أدعُ الكتابَ يسقطُ وراء حجر.
أتسلّق تلعةً خفيضة من العشب.
لا أريدُ أن أزعجَ النمالَ
التي تسير في رتلٍ واحدٍ على عمودِ السياج،
حاملةً بتلاتٍ بيضاء صغيرة،
ملقيةً بظلالٍ رقيقة جداً تشفُّ عما أراه.
أغمضُ عينيّ هنيهة وأنصِتُ.
الجنادب العجوز
متعَبةٌ، بمشقةٍ تتقافزُ الآن،
أفخاذُها مثقَلة.
أودُّ لو أسمعُها، فالأصواتُ التي تصدرُها صافية.
ثم جميلاً، في البعيد، يبدأ جدجدٌ داكن
بين أشجار القيقب.

بداية

يُسقِط القمرُ ريشةً أو اثنتين.
القمحُ الداكنُ ينصِت.
الزمِ السكون.
الآن.
ها هنّ هناك، فتياتِ القمر، يختبرنَ
أجنحتهنّ.
بين شجرتين، ترفعُ امرأةٌ نحيلةٌ ظلَّ وجهها
الجميل، وتخطو الآن في الهواء، وهي الآن اختفتْ
بكاملها في الهواء.
أقفُ وحيداً إلى جوار شجرةِ بلسان، لا أجرؤ أن أتنفّس
أو أتحرّك.
أنصِتُ.
ينثني القمح راجعاً إلى ظلامه،
وأنحني أنا صوب ظلامي.

من نافذة الحافلة في مركز أوهايو، قبيل زخّةٍ رعدية

تتلاصقُ المخازن ملآنةً بالعلف
قبل وصول غيوم الشمال.
تخطو الريحُ على رؤوسِ أصابعها بين أشجار الحور.
أوراقُ القيقب الفضية ترمقُ الأرض
بعيونٍ نصف مغمَضة.
مزارعٌ عجوز، وجههُ القرمزيّ
مضرَّجٌ بالويسكي، يدفعُ بابَ حظيرة
وينادي مائة بقرة هولندية بيضاء-سوداء
من حقلِ البرسيم.

محاولة صلاة

هذه المرة، تركتُ جسدي ورائي، باكياً
بين أشواكهِ الداكنة.
لكن، ثمة أشياء طيبة في هذا العالم.
هذا هو الغسق.
إنه الظلامُ الرحيم
لأيدي النساء التي تلمسُ الأرغفة.
روحُ شجرة تبدأ بالاستيقاظ.
ألمسُ الأوراق.
أغمضُ عينيّ، وأفكّرُ بالمياه.

صُور الربيع

رياضيّان
يرقصان في كاتدرائية
الريح.
فراشةٌ تحطُّ على
غصنِ صوتك الأخضر.
وعولٌ صغيرة
تغفو
في رمادِ القمر.

الوصولُ إلى الريف مرة أخرى

المنزلُ الأبيض صامت.
لا يمكن لأصدقائي أن يسمعوني الآن.
النقّارُ الذي يحيا على الشجرةِ العارية عند طرف الحقل
ينقرُ مرةً واحدة ولبرهةٍ تطول يلزمُ السكون.
أقف ساكناً عصر هذا اليوم.
وجهي يستديرُ عن الشمس.
حصانٌ يرعى في ظلّي الطويل.

لمطر

هذا هو غرقُ الأشياء.
أضواءُ الكشّافات تطفو فوق الأشجارِ المظلمة،
تجثو الفتيات،
تنطبقُ جفونُ بومة.
عظامُ يديّ الحزينتين تهبطُ وادياً
من الصخورِ الغريبة.

اليوم كنتُ سعيداً، فألَّفتُ هذه القصيدة

عندما يهرولُ السنجابُ المكتنز
هارباً عبر سطحِ مخزن الذرة،
يقف القمر بغتةً في الظلام،
فأرى أن موتي مستحيل.
كلُّ لحظةٍ من الوقت جبلٌ.
نسرٌ ينتشي بأشجارِ البلوط في السماء
صارخاً
هو ذا ما أردتُ.

مذعوراً من فواتير المستشفى

لا يزالُ معي بعضُ النقود
كي آكلَ بها، وحيداً
وفزِعاً، عارفاً أني سأستيقظ
عمّا قريب رجلاً فقيراً.
حرَّاً يتساقطُ الثلج وحرَّاً يقسو
فوق مروج أملي، سرّي
الذي تعقّبوه ونهبوه. أتساءل
بأيِّ الكلمات سأستجدي النقود.
اعذرني، يا سيد، هل بإمكانك...؟
أين الطريق إلى سان بول؟
أعطشُ.
أنا هنديٌّ أحمر من هنود السيوكس ودمي نقيّ.
أنا واثقٌ من أني سأتضوّر جوعاً عما قريب،
مرغَماً سأقفزُ حافي القدمين عبر ستائر العار المشتعلة،
مرغَماً سألاحقُ الغرباءَ الخائفين
عند نواصي الماخور.
آهٍ أيها القمر، انثُرِ الأوراقَ على يديّ،
وعلى وجهي الملوَّح، فأنا، آهٍ، أحبّك.
حلقي مفتوحٌ، مجنون،
مُغوياً ذاتَ الرئة.
لكنّ حياتي لم تكنْ أبداً ثمينةً عندي
مثلما هي الآن.
مُكرَهاً سأتسوّلُ النقود
بعد حلولِ الظلام.
سأتعلّمُ كيف أشمُّ الشرطة،
فأجلسُ أو أصابُ بالعمى، أو أبقى كالأبكم، ويحسبونني ميتاً
من أجلك أنت، آه يا سرّي،
يا حياتي.

في الحقل أواخر تشرين الثاني

اليومَ أمشي وحدي في مكانٍ مقفر،
والشتاءُ هنا.
سنجابان بالقرب من عمودِ سياج
يتعاونان على جرِّ غصن
إلى مكانٍ خفيّ؛ لا بدّ أنه هناك
وراء أشجار الدردار تلك.
لا يزالان على قيدِ الحياة، وعليهما ادّخارُ البلّوط
أمام هذا البرد.
براثنُ ضعيفةٌ تنبش المَذاود بين سيقانِ الذرة عندما
يشيحُ القمرُ بنظرته.
الأرضُ قاسيةٌ الآن،
نعلا حذائي بحاجةٍ إلى تصليح.
لا أملكُ شيئاً أسأل المباركة لأجله،
غير هذه الكلمات.
كم وددتُ لو كانت
عشباً.

الحياة

مقتولاً، مضيتُ، منبعثاً
إلى حيث همُ القتلة،
حيث تلك الساقيةُ السوداء
من النهر.
ولو رجعتُ إلى بلادي الوحيدة
وعلى كتفي وردةٌ بيضاء،
فماذا ستقول؟
إنها القبرُ
مزهِراً.
إنها زهرةُ الظلام ذاتُ التويجاتِ الثلاث،
تلك هي الجحيم، بدايةُ الشتاء،
مدينةُ أشباح الإتروسكانيين الذين ما عادت لهم
أسماء.
تلك هي الوحدةُ القديمة.
هي الوحدةُ،
وهي الرجوعُ الأخير.

وضعيّتان إلى جوار النار

-1-

الليلة أتملّى شعرَ أبي،
جالساً قرب موقِدهِ يحلمُ.
عارفاً بطبيعةِ يأسي،
خشية ألا أعرفَ إنه يحبّني،
أرسلَ إليّ ريشةَ بومة، فجئتُ إلى البيت.
الليلةَ أوهايو- حيث ذات مرة
لاحقتُ وحدتي ولعنتُها-
تُريني أبي، مَن كان يكسّر الحجارة،
ويصارعُ الآلاتِ الكبيرة ويُجيد استخدامَها،
تُريني إياه مستريحاً، ملقيةً بظلالها على وجههِ الجميل.


-2-

يداهُ في رقادهِ معقودتان بنبلٍ.
إنه فخورٌ بي، يحسبني
قد قمتُ بأشياء قوية بين الرجال وصرتُ رجلاً
له مكانتهُ بين كبارِ الرجال في المدنِ الكبيرة.
لن أوقظه.
قد جئتُ إلى البيت وحدي، دونما زوجةٍ أو طفل
كي أفرحَه. مستيقظاً، وحيداً ومرحَّباً بي،
أجلسُ أيضاً قرب موقِده، تجاعيد
شيخوخةٍ بشعة ترسمُ على وجهي ندوباً، ويداي
القلقتان تتململان.


اعترافٌ أمام ج. إدغار هوفر

متوارياً في كنيسةٍ حجريّة مهجورة،
جنديٌّ زنجي
يقلّبُ صفحاتِ قوانين الحرب
التي لا يستطيعُ قراءتها.

أبانا،
مساءَ أمس التهمتُ جناحَ غيمة.
و، في المدينة، تسلّلتُ
لكي أصلّي مع شجرةٍ مريضة.

أشقى لكي أموت، يا أبانا،
أعتلي الحجارةَ العظيمة،
أختبئ تحت النجومِ وأشجار القيقب،
ولا أستطيع العثورَ على وجهي.
في جبالِ مصاهرِ الحديد،
تُدير الأشجارُ ظهورَها لي.

أبي، فراشاتُ الليل الداكنة
رابضةٌ على أطراف الأرض، وتنتظر.
وأنا خائفٌ من صلواتي.
سامحني يا أبي.
لم أكنْ أدركُ ما كنتُ أفعله.


* في مقدمة الأعمال الشعرية الكاملة لجيمس رايت، كتب صديقه دونالد هول إننا قد نختار المنفى ثم نلتفت منه لننظر إلى المكان الذي رفضناه ورَفضَنا، لنصنع قصائدنا منه وضدّه. هذا المكان لدى جيمس رايت هو أوهايو حيث ولد عام 1927، وحيث بدأت انهياراته العصبية التي تكرّرت مراراً طوال حياته، وعُولج بالصدمات الكهربائية أكثر من مرة في نوبات كآبته وهوسه، وطُرد من عمله كمدرّس جامعي بسبب الكحولية؛ أثناء ترحله بين مدن أميركا أو في إيطاليا وفرنسا اللتين أمضى فيهما مع زوجته الثانية أصيافاً عديدة، كانت قصائده تعود إلى الحياة التي تركها وراءه في وادي أوهايو. ثمة انعطاف مفاجئ في مسيرته ابتدأه بديوان «لن ينكسر الغصن»، أحد الأعمال المتميّزة في الشعر الأميركي- بعد مجموعتيه الأولى «الجدار الأخضر» (المنشورة في سلسلة الشعراء الشبان التي قدّمها و. ه. أودن في جامعة ييل)، والثانية «القديس يهوذا». ترجم رايت شعراء كثيرين، ونقل عن الألمانية قصائد جورج تراكل وهرمان هيسه، وفي إحدى الحفلات التي اصطحبه إليها صديقه هول ألقى شعراً ألمانياً لأكثر من عشرين دقيقة أمام جَمعٍ من علماء الرياضيات المتفاجئين؛ وتدفقت أحاديثه على مدرجات ملعب أثناء إحماء اللاعبين، قبل بدء مباراة كرة قدم حضرها الصديقان، وأفكاره تتطاير من الشعر الحر والشعر الموزون، من قصائد البحر «الأيامبي» إلى «الصورة العميقة» وقصائده السردية ذات العناوين الطويلة أحياناً (وقد سخر منها بعض النقاد في البداية بعد أن تخلّى عن الأوزان التقليدية التي برع في توظيفها)، إلى روبرت بلاي والملاكمة وإيميلي ديكنسون، زوجته الأولى ليبرتي وابنه فرانز رايت... ثم أطبق عليه الصمت والإحباط المباغتان. كان جيمس رايت مثل الشاعر ثيودور رويثكه الذي أهداه بمناسبة التخرّج بطاقة لحضور مباراة بطولة العالم للملاكمة في الوزن الثقيل- مضطربَ المزاج، خجولاً تربكه المناسبات الاجتماعية، واسع الثقافة وقوي الذاكرة وشغوفاً بالرياضة، وريفيّ الطباع كما وصف نفسه في إحدى رسائله الكثيرة.
توفي جيمس رايت بسرطان اللسان سنة 1980، بعد أن أمضى أيامه الأخيرة في غرفة تقاسمها مع ثلاثة مرضى آخرين في مستشفى بحيّ البرونكس في نيويورك، وكانت زوجته قد علّقت على جدار تلك الغرفة عشرات الصور معظمها لأطفال أصدقائه.