في محاولة لتقدير عتبة الحدّ الأدنى للإنفاق اليومي على الغذاء، جرت الاستعانة بالبيانات المتاحة والموجودة، ودمج المنهجيات المستخدمة في تقدير «سلّة الحدّ الأدنى للإنفاق». تُعرّف هذه السلّة بأنها أداة تساعد صنّاع القرار لتحديد مقدار معدّل كلفة الاحتياجات الأساسية أو الضرورية المنتظمة أو الموسمية للأسرة الواحدة، والتي يمكن تغطيتها من خلال السوق المحلّي في سياق محدود ولفترة زمنية معينة. وتُعرَّف الاحتياجات الأساسية (أو الضرورية) بأنها «السلع والخدمات الأساسية المطلوبة على أساس منتظم أو موسمي من قبل الأسر لضمان البقاء على قيد الحياة ومستويات المعيشة الدنيا، من دون اللجوء إلى آليات التكيّف السلبية، أو المساس بصحّتهم وكرامتهم وأصولهم الأساسية لسُبل عيشهم». كما أن سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق، هي حدّ نقدي (كلفة هذه السلع والمرافق والخدمات والموارد) مكافئ من ناحية المفهوم لخطّ الفقر، وهو يصف كلفة تلبية احتياجات أساسية لمدّة شهر واحد. وبما أن السلّة تضع حدّاً نقدياً لما هو مطلوب لتغطية الاحتياجات الأساسية، فإن الأسر التي تقلّ نفقاتها عن حدود هذه السلّة، تُعرّف بأنها غير قادرة على تلبية احتياجاتها الأساسية.
انقر على الجدول لتكبيره

وتُستخدم «سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق» في الأدبيات والبحوث المتعلّقة بالفقر في المقام الأول، لتحديد خطوط الفقر الوطنية والنسبة المئوية للأسر الفقيرة بين السكان، أي الذين لا يستطيعون تلبية احتياجاتهم الأساسية. ولا تحتوي هذه السلّة، بالضرورة، على جميع الاحتياجات الأساسية للأسرة، إنما تحصر الاحتياجات التي تغطيها الأسر كلّياً أو جزئياً من خلال السوق. وفي السياقات التي تعدّ فيها الكهرباء حاجة أساسية، ولكنها غير متوفّرة للسكان المعنيين، لا ينبغي تضمينها في السلّة. وإذا تمّ توفير المأوى مجاناً، أو إذا تمّ توفير التعليم مجاناً، فلن يتم تسجيل هذه الاحتياجات وأكلافها في السلّة.

منهجيات إنشاء «سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق»
هناك طرق مختلفة لإنشاء سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق، فبحسب دليل البنك الدولي للفقر وعدم المساواة، إن نقطة البداية النموذجية لإنشاء السلّة، هي تقدير كلفة الحصول على ما يكفي من الغذاء لتلبية متطلّبات الطاقة الغذائية، والتي تكون عادة بـ2100 سعرة حرارية للفرد يومياً وفقاً لمعايير «3Sphere»، علماً بأن كلفة 2100 سعرة حرارية تختلف باختلاف النظام الغذائي للأسر الذي يعتمد على وضعها الاقتصادي. ثم تُضاف كلفة الاحتياجات الأساسية الأخرى غير الغذائية.
هناك مناهج عدّة لتحديد المواد الغذائية وغير الغذائية التي يجب أن تكون في سلّة الحدّ الأدنى من الإنفاق:
- الأول: نهج يعتمد على الإنفاق، ويركّز على الطلب الفعّال. هو منهج مستخدم على نطاق واسع لتعريف خطوط الفقر الوطنية بناء على تحديد الاحتياجات وفقاً لنفقات الأسر الفقيرة الشهرية. وتعكس هذه السلّة الأكلاف الحقيقية، بناء على أنماط الاستهلاك المحدّدة من خلال مسوح الأسر وتقييمات الأسواق وتوصيفات نفقات الأسر وغيرها من بيانات الأسر الاقتصادية. نجاح هذه المقاربة القائم على النفقات، يعود غالباً إلى القدرة على تعريف مجموعة متنوّعة من الأسر القادرة بالكاد على تلبية حاجات البقاء.

انقر على الجدول لتكبيره

- الثاني: منهج قائم على الحقوق أي على أساس الاحتياجات المقدّرة. تنطوي هذه المقاربة على الوصول إلى كامل الحقوق المعرّفة في القانون الإنساني الدولي وقانون حقوق الإنسان الذي يحمي حق الأشـخاص المتضرّرين من الأزمات بالوصول إلى الغذاء ومياه الشرب والصابون والملابس والمأوى والرعاية الصحّيـة المنقذة للحياة. ومعايير Sphere الإنســانية مبنيّة على هذا التعريف إضافة إلى خدمات الصرف الصحي الأساسية والوقاية من الأمراض المُعدية والتعليم. وتُحدّد هذه الحاجات غير الغذائية مع مراعاة للمعايير القطاعية الوطنية. في بعض الحالات، لم تحدّد معايير قطاعيــة دولية ومحلية، ما يتيح استخدام المعايير المجتمعية.
- الثالث: منهج هجين يجمع عناصر من الأول والثاني. فيجري اختيار مزيج من المقاربات لكل حالة على حِدة اعتماداً على المعلومات المتاحة في السياق.
في هذه الدراسة سوف نستخدم مزيجاً من المنهجيتين؛ سنقوم بالاستعانة بنتائج مسح الأسر في لبنان لعام 2011-2012، من أجل رسم صورة تقريبية عن سلّة الاستهلاك الغذائية استناداً إلى النظام الغذائي اللبناني. ثم إعادة تقدير مكوّنات هذه السلّة لتعطينا 2100 وحدة حرارية للفرد يومياً بحسب معايير Sphere.

خط الفقر الغذائي
يحتسب هذا الخط كلفة السلع الغذائية الضرورية لتوفير الحدّ الأدنى من السعرات الحرارية الضرورية لاستمرارية حياة الفرد البالغ، تُراوح بين 2100 و2400 سعرة حرارية بالمتوسط في اليوم الواحد. وتحتوي سلّة السلع هذه على المكوّنات الغذائية اللازمة من بروتينات وفيتامينات وغيرها. وبالتالي تُعدّ الأسرة فقيرة جداً في حال عدم كفاية إنفاقها اليومي لتغطية هذا القدر من السعرات. وكانت إدارة الإحصاء المركزي قدّرت عام 2015 خطّ الفقر الغذائي (أو المُدقع) بالتعاون مع البنك الدولي بنحو 1.480.500 ليرة سنوياً للفرد، أي نحو 4.056 ليرة يومياً (2.675 دولار في حينه على سعر صرف يبلغ 1507.5 ليرات وسطياً). وذلك بالاستناد إلى معطيات المسح الذي جرى تنفيذه في عام 2011-2012. وتشمل السلّة التي احتسب على أساسها خطّ الفقر الغذائي منتجات عديدة.
وعلى افتراض أن السلّة الغذائية للأسرة، العائدة لعام 2012 بقيت على حالها لجهة النوعية والكمية، فإن تحديث خطّ الفقر الغذائي في هذه الدراسة يقتصر على متابعة تطوّر أسعار السلع في ضوء موجة التضخّم الحالية في ظل غياب المعطيات الإحصائية الوطنية الجديدة التي تسمح بتحديث سلّة الاستهلاك وتثقيلاتها، على نحو يأخذ في الاعتبار التطورات الاقتصادية والنقدية الكبيرة التي عرفها لبنان في السنوات القليلة الماضية.

انقر على الجدول لتكبيره

هكذا يتبيّن أن كلفة السلّة الغذائية للفرد في اليوم باتت تساوي 147 ألف ليرة، أي ما يُقدّر بـ 2.55 دولار على سعر صرف يبلغ 58000 ليرة مقابل الدولار، في كانون الثاني 2023، وهو ما يعني أن الفرد الواحد يحتاج إلى 76.5 دولار شهرياً لتأمين الحدّ الأدنى من الغذاء الذي يتوافق مع المعايير الإنسانية المتفق عليها دولياً. وقد اعتمدنا في هذا التقدير على الأسعار التي تنشرها يوميّاً وزارة الاقتصاد بالاعتماد على البيانات التي تجمعها من معظم مراكز البيع في لبنان، في حين تكتفي إدارة الإحصاء المركزي بنشر بيانات شهرية عن مؤشّر أسعار المستهلك.

خط الفقر غير الغذائي
في دراسة إدارة الإحصاء المركزي والبنك الدولي استخدمت بيانات من المجموعة المرجعية لاحتساب خطّ الفقر غير الغذائي، وتتكوّن هذه المجموعة من الأسر القادرة على تلبية حاجاتها الأساسية، أي التي تقف مباشرة فوق عتبة الفقر. وتبيّن أن الإنفاق على الحاجات غير الغذائية في عام 2015، كان يساوي تقريباً 68.7% من إجمالي إنفاق هذه المجموعة.
ولتقدير خطّ الفقر (الغذائي وغير الغذائي) اعتمدت الدراسة، المعادلة الآتية:
خطّ الفقر = خطّ الفقر الغذائي / (1 - نسبة الإنفاق على غير الغذاء)
هكذا يصبح خطّ الفقر الغذائي وغير الغذائي الوسطي لكانون الثاني 2023 على النحو الآتي:
* خطّ الفقر= خطّ الفقر الغذائي/ (1 - نسبة الإنفاق على غير الغذاء) = 147.820.2 / (1-0.687) = 472.269 ليرة لبنانية، أي ما يعادل 8.14 دولار أميركي يومياً للفرد في حال استخدمنا نفس النسبة لغير الغذاء من الإنفاق للفرد، والصادرة في دراسة عام 2015 المذكورة. ومن خلال هذه المقاربة، تقدّر حاجة الفرد اليومية لتأمين احتياجاته الأساسية بمبلغ 8.14 دولار. ما يعني أن الفرد يحتاج إلى 244.2 دولار شهرياً.
وحيث أن تضخم الأسعار لم يكن متساوياً لكل بنود الإنفاق في مؤشّر أسعار المستهلك، فقد شهدت أسعار الغذاء والمشروبات والملبس والمطاعم ارتفاعاً كبيراً في أسعارها منذ بداية الأزمة تخطّى 100%، قمنا بإعادة تقدير أوزان سلّة الاستهلاك (نظرياً) لتقدير حجم الإنفاق على الغذاء بناء على ارتفاع الأسعار:
نتيجة للارتفاع غير المتساوي في أسعار بنود السلّة الاستهلاكية، لم يعد ممكناً تسجيل النسب ذاتها في سلّة الاستهلاك بعد تسجيل بند الغذاء ارتفاعاً تخطّى 8000% (80.9 مرّة) مقارنة مع عام 2013 التي احتسبت أسعار السلّة انطلاقاً منها. ولتقدير التغيّر في أوزان بنود الاستهلاك، انطلقنا من تقدير لمتوسط الدخل يساوي حصّة الفرد من الناتج في سنة الأساس، والتي كانت تساوي 7933 دولاراً في عام 2013، أي 661 دولاراً شهرياً (ما كان يوازي مليون ليرة بحسب سعر الصرف حينها)، ثمّ قمنا بإعادة توزيع هذا المبلغ، مع الأخذ في الاعتبار الارتفاع التراكمي في الأسعار بين كانون أول 2013 وكانون الثاني 2023، والذي بلغ معدّلات هائلة بسبب الأزمة الماليّة والنقدية التي ألمّت بالاقتصاد اللبناني وغيّرت تركيبة وأوزان بنود السلّة الاستهلاكية. وقد اعتمدنا هذه الطريقة نظراً إلى تعذّر إجراء مسح جديد لإنفاق الأسر الذي يظلّ الأسلوب العلمّي الأدقّ في رصد التغيّر المذكور.
خلصت النتيجة إلى الآتي: كان الإنفاق على الغذاء يعادل 20.6% من مجمل الإنفاق عام 2013، أي ما يساوي مليون ليرة ×20% = 206 آلاف ليرة، وبعد تطبيق الزيادة التراكمية في الأسعار بين كانون الأول 2013 وكانون الثاني 2023، ترتفع قيمة الإنفاق على الغذاء إلى 18.392.525 ليرة للحفاظ على نفس الكمّية التي كان يحصل عليها الفرد في سنة الأساس. وبتطبيق هذه القاعدة على كل بنود الإنفاق ارتفعت نسبة الغذاء والمشروبات إلى 40.43% من إجمالي الإنفاق، وتغيّرت أيضاً أوزان البنود الأخرى، وبالنتيجة صار الفرد بحاجة إلى 45 مليوناً و495 ألف ليرة لبنانيّة (784 دولاراً بسعر صرف 58 ألف ليرة مقابل الدولار) للحفاظ على نفس كمية السلع والخدمات التي كان يحصل عليها عام 2013.

* نشرت هذه الدراسة في النشرة الاقتصادية - العدد التاسع التي يصدرها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق