هناك سمتان محدّدتان ونهائيّتان للوضع الاقتصادي العالمي الحالي. الأولى، نوقشت كثيراً، وهي تتعلق بالزيادة العالمية في أسعار الفائدة استجابةً للطفرة التضخمية المتفشّية التي ستولّد الركود والبطالة بلا أدنى شك. الثانية، التي لم تناقش كثيراً، وهي تدفق رأس المال من أماكن أخرى في العالم إلى الولايات المتحدة، ما يسهم في تعزيز الدولار مقابل العملات الأخرى، مع استثناء وحيد هو الروبل الروسي. صحيح أن العملات الرئيسية تضعف ومن ضمنها اليورو والجنيه الإسترليني، لكن ما يثير القلق هو ضعف عملات العالم الثالث. الروبية (العملة الهندية) خير مثال على ذلك.في السنة الحالية، تمّ نقل ما يقدّر بنحو 200 مليار دولار من الهند، وهو ما يمثل ثلث احتياطيات العملات في الهند. استُنزفت هذه الاحتياطيات أيضاً بأكثر من 100 مليار دولار في إطار محاولات البنك المركزي الهندي دعم الروبية مقابل الدولار؛ رغم ذلك، تراجعت قيمة الروبية بنحو 10%.
هناك اعتقاد بأن التدفقات المالية عبر الدول يتم تحديدها بشكل أساسي من خلال فروقات أسعار الفائدة، وبالتالي فإن التدفق الحالي نحو الولايات المتحدة، هو نتيجة رفع أسعار الفائدة الأميركية إلى حدّ أعلى من البلدان الأخرى. يترتب على ذلك، أنه عندما ترفع الدول الأخرى أسعار الفائدة بقدر ما فعلت الولايات المتحدة، فإنها لن تواجه مثل هذه التدفقات الرأسمالية إلى الخارج. عموماً، هذا أمر غير صحيح. فروقات أسعار الفائدة لها تأثير بلا شك على التدفقات المالية، إلا أن هناك شيئاً أساسياً يؤثّر بشكل أكبر عليها، وهي حالة النشوة بين المموّلين. فعندما تكون توقعاتهم مبتهجة، ينتقلون إلى البلدان في الأطراف (بعض البلدان وليس كلها)؛ ولكن عندما تكون توقّعاتهم كئيبة، فإنهم يفضلون العودة إلى قاعدتهم الرئيسية، الولايات المتحدة. والعامل الحاسم الذي يؤثّر على النشوة أو الكآبة لديهم هو مستوى أسعار الفائدة في الولايات المتحدة.
عندما تكون أسعار الفائدة الأميركية منخفضة، فإن النظام بأكمله، بحكم الأمر الواقع، يتدفّق بالسيولة الرخيصة التي تنتقل بعد ذلك إلى جميع أنحاء العالم بحثاً عن فرص مربحة؛ لكن عندما ترفع الولايات المتحدة أسعار الفائدة، يكون هناك شحٌّ في السيولة وخوفٌ من الركود العالمي، فيعود التمويل إلى قاعدته الأساسية. بناء على ذلك، فإنه عندما تكون أسعار الفائدة الأميركية أقرب إلى الصفر مقابل 3% في الهند، سيكون هناك تدفق أكبر للتمويل نحو الهند ما لو كان سعر الفائدة في أميركا 6% وفي الهند 9%. رغم أن فرق سعر الفائدة بين الولايات المتحدة والهند هو نفسه في كلتا الحالتين. في الواقع، إن أي أزمة مالية، كأن تكون مقدمة لركود عالمي، تدفع رأس المال إلى قاعدته الرئيسية، أي الولايات المتحدة. تم إثبات ذلك في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008. كانت الولايات المتحدة في مركز تلك الأزمة، وكان نظامها المالي مليئاً بالأصول «السامة» المكونة من القروض الممنوحة للمقترضين الذين لا يستطيعون السداد؛ مع ذلك، فإنه بدلاً من أن تؤدي الأزمة المالية إلى تدفق رأس المال من الولايات المتحدة، أدّت فوراً إلى تدفّق رأس المال مرّة أخرى نحو الولايات المتحدة من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك دول مثل الهند التي بالكاد تعرضت للأصول «السامة».
بالطبع، السبب الرئيسي للتدفقات الحالية إلى الولايات المتحدة والتي تعزّز الدولار، هو ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية. لكن هذا الارتفاع ليس مهماً لأنه يجعل الولايات المتحدة وجهة أكثر ربحية للانتشار المالي، بل لأنه ينذر بفترة ركود عالمي تجعل رأس المال متوتراً للغاية. بعبارة أخرى، تدخُل الرأسمالية العالمية في مرحلة جديدة تماماً تشهد فيها اقتصادات العالم الثالث تدفقاً (هروباً) مستمراً لرأس المال، حتى لو رفعت هذه الدول أسعار الفائدة بالتوازي مع المعدلات الأميركية.
وهذا من شأنه أن يجعل الأزمة التي تقترب أكثر حدّة بالنسبة إليهم. لن يعانوا فقط من آثار الركود لارتفاع أسعار الفائدة المحلية والأجنبية؛ بل سيعانون أيضاً من حقيقة أن إعادة جدولة ديونهم ستصبح أكثر كلفة، وسيصبح تمويل عجز الحساب الجاري في ميزان المدفوعات أكثر صعوبة. كل هذا من شأنه أن يدعو إلى اتخاذ تدابير «تقشف» صارمة بخصوص رأس المال الدولي من خلال هيئات رقابية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والتي سوف يتم التعامل معها حتماً للحصول على «المساعدة».
ستؤثر هذه المرحلة الجديدة من الرأسمالية العالمية على دول مثل الهند سلباً، رغم أنها ليست مثقلة بالديون للمقرضين الخارجيين، كما هو حال العديد من دول العالم الثالث. حتى الآن تتمتع الهند بسهولة الوصول إلى التمويل الخارجي لإدارة عجز الحساب الجاري في ظل النظام النيوليبرالي. في فترة ما بعد «التحرير» وبسبب «انغلاق» البلاد أمام التدفقات، كان رأس المال المعولم متلهّف للاستفادة من فرصة الانفتاح، لذا عندما خفضت أسعار الفائدة الأميركية إلى الصفر لتحفيز التعافي من الركود الذي أحدثته الأزمة المالية، لم يكن مستغرباً أن يتدفق رأس المال إلى الهند ودول العالم الثالث الأخرى التي قدمت معدلات عوائد أعلى بكثير.
ونتيجة لذلك، فإن الارتفاع في معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي في الهند مقارنة بفترة التوجيه المتشددة السابقة التي شهدتها بداية هذا القرن يمكن أن يستمر من دون أي قيود على ميزان المدفوعات. في الواقع، على مدار نحو عقد بين عامَي 2002 و 2012، ظلت قيمة سعر صرف الروبية مقابل الدولار مستقرة بشكل ملحوظ، حتى عندما كانت البلاد تشهد ارتفاعاً غير مسبوق في معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي. إنها مسألة منفصلة أن هذا الارتفاع المفاجئ لم يؤدّ إلى تحسّن في الظروف المعيشية للعمال، ولكن مهما كانت آثاره، فقد كان غير مقيد بأي صعوبات في ميزان المدفوعات. في الواقع، على عكس ذلك، كان حجم تدفق رأس المال بالنسبة إلى عجز الحساب الجاري كبيراً للغاية لدرجة أن بنك الاحتياطي الهندي كان عليه أن يضيفه إلى احتياطيات العملات الأجنبية للبلاد لمنع ارتفاع قيمة الروبية. كان من شأن هذا التقدير أن يتسبب في «إلغاء التصنيع المموّل بالديون» من دون مبرر، أي تفوّق الموردين الأجانب على المنتجين المحليين بسبب ارتفاع قيمة الروبية حتى مع ارتفاع المديونية الخارجية للدولة للممولين الأجانب.
هذه المرحلة من الليبرالية الجديدة قد انتهت الآن. وليس فقط أن الهند لن تشهد نموّ الناتج المحلي الإجمالي بهذا الحجم بعد الآن، بسبب القيود على الطلب الناجمة عن النمو الهائل لأوجه عدم المساواة داخل البلد وعلى الصعيد الدولي، وهي حقيقة أصبحت واضحة بالفعل منذ زمن، ولكن حتى هذا المعدل المنخفض من نمو الناتج المحلي الإجمالي بسبب القيود على الطلب سيصبح بحد ذاته غير مستدام بسبب المصاعب المتصلة بميزان المدفوعات.
السرعة الفائقة التي يمكن من خلالها إجبار بلد بأكمله للجثو على ركبتيه بسبب صعوبات ميزان المدفوعات يتجلّى في الدول المجاورة للهند، حيث تقدم سريلانكا مثالاً كلاسيكياً. اعتُبر اقتصادها منذ أيام فقط «دولة ذات دخل متوسط» والتي ارتقت لتوها من فئة البلدان ذات الدخل المنخفض، ويعاني اقتصادها الآن من الديون الخارجية المتصاعدة والنقص الحاد في النقد الأجنبي الذي يجعلها متسوّلة أمام صندوق النقد الدولي الذي يفرض شروطاً «تقشّفية» مرهقة. الدعاية الإمبريالية تجعل كل قصص «من الثراء إلى الفقر» في العالم الثالث تظهر حصرياً على أنها تداعيات للفساد المحلي، وتفاهات أمثال راجاباكساس؛ ولكن في حين أن هذه الألاعيب تؤدي دورها بلا شك، فإن التركيز عليها فقط وتفويت العيوب الهيكلية التي أدخلتها النيوليبرالية هو قمة الحماقة.
من السمات المميزة للرأسمالية النيوليبرالية أن الظروف المعيشية للجماهير الواسعة من الطبقة العاملة تحدّدها أهواء ونزوات مجموعة من المضاربين الماليين. إن قلق مجموعة من المضاربين الماليين في مواجهة الارتفاع التضخمي وما تلاه سوف يجلب في أعقابه مصاعب حادّة للطبقة العاملة في العالم الثالث. إن إجراءات التقشف الصارمة التي ستُفرض على هذه البلدان بسبب صعوبات في موازين مدفوعاتها تعني أن الشعوب التي نادراً ما حصلت على أي فوائد من ازدهار النيوليبرالية تصبح من سخرية القدر ضحية تحلّلها.

* نشر هذا المقال في ديموقراطية الشعب بتاريخ 20 تشرين الثاني 2022