لم يكن هناك مهرب من تشكّل فقاعة عقارية عام 2007. فالتدفقات الكبيرة التي أتت في تلك السنة بعد حرب تموز، ثم تلتها تدفّقات خارجية هربت من الأزمة المالية العالمية نحو لبنان طمعاً بالاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة، غذّت الاستثمارات في الريوع المالية والعقارية المحلية. هذا الطلب المرتفع على الاستثمار العقاري، خلق فقاعة أسعار تستند إلى المضاربات على الأراضي وعلى العقارات المبنية بمعزل عن الحاجات المحدودة للطلب السكني والتجاري والسياحي. وبدا واضحاً أن جزءاً مهماً من الأموال التي صبّت في هذه الفقاعة هي ودائع للمغتربين واستثمارات مباشرة لأجانب ولبنانيين أيضاً، وجّهها مصرف لبنان نحو هذه الفقاعة مباشرة.
المضاربات هي الأصل
يصف الاقتصادي جون مينارد كينز، الأسواق الماليّة، بأنها بيئة يقوم فيها المضاربون باستشراف «مزاج الرأي العام» وتوقعات العموم لقيمة الأصل المالي، بدلاً من التركيز على قيمة الأصل الحقيقيّة. ويتّخذ روبيرت فلود وروبيرت هودريك في ورقتهم البحثية «في اختبار الفقاعات المضاربيّة»، من كلام كينز، أساساً للاستنتاج بأنه إذا وُجد فقاعات في أسواق الأصول، مثل الأسواق العقاريّة، فلا بدّ أن يكون هناك أمر شبيه بما وصفه كينز عن الأسواق الماليّة.


باختصار، الفقاعة في أسواق الأصول، تنشأ عندما تنحرف القيمة السوقيّة للأصول عن القيمة الحقيقيّة لها. فالأسواق، بحسب الباحثين، لا تقوم، بالضرورة، بتوزيع المدّخرات بالطريقة المثلى، ما يترك المجال واسعاً أمام التوقعات. فعندما تظهر توقّعات حول ارتفاع سعر أحد أنواع الأصول، يتّجه المضاربون للاستثمار في هذا النوع، ما يخلق انعداماً للتوازن في توزّع المدّخرات بين مختلف أنواع الأصول.
عملياً، هذا ما حدث في لبنان بين عامَي 2007 و2010. فمع ارتفاع معدّل الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة في تلك الفترة، استحوذ قطاع العقارات على الحصّة الأكبر من هذه الاستثمارات. فبحسب تقرير أعدّه «بلوم إنفست» عام 2017 عن القطاع العقاري، فإنه بين عامَي 2007 و2010، استحوذ هذا القطاع على 60% من الاستثمارات الأجنبية المباشرة الوافدة إلى لبنان، ما أسهم في ازدياد الطلب على الأراضي والشقق السكنيّة. وبالنسبة إلى بلد صغير في المساحة مثل لبنان، لا يوجد هامش كبير لارتفاع العرض توازياً مع ارتفاع الطلب على العقارات.
طبعاً لا يمكن عزل انعكاسات الأزمة المالية العالميّة في عام 2007-2008 عما حصل. فبسبب هذه الأزمة، تدفقت رؤوس الأموال الأجنبية إلى لبنان. يومها، أصبح لبنان يعدّ بمثابة ملاذ آمن، قياساً على المخاطر المرتفعة في بلدان العالم بسبب الاضطرابات الماليّة والاقتصاديّة التي اجتاحت العالم. ولكن ماذا تعني عبارة: «ملاذ آمن»؟ كان ذلك يعني أن لبنان يضمن، باحتياطاته بالعملات الأجنبية لهذه الاستثمارات الوافدة، أرباحاً سهلة وسريعة. والضمانة الفعلية هي الأموال التي تتدفق إلى المصارف، سواء كانت ودائع أو استثمارات مباشرة، وهنا يصبح مفهوم البونزي أكثر وضوحاً؛ كان مصرف لبنان والمصارف، يوزّعون ضمانات للاستثمارات الوافدة (سواء على شكل ودائع أو استثمارات أجنبية مباشرة) أنها ستحصل على أرباح يتم اقتطاعها من استثمارات وافدة جديدة. فكانت الأموال تتدفق للاستفادة من أسعار الفائدة المرتفعة في بلد «يقدّس» حرية دخول وتحويل الأموال إلى الخارج، ويمنح هذه الأموال أملاً إضافياً بالاستفادة من أرباح عقارية تفوق إيرادات الفائدة أضعافاً في ظل سوق «حرّة» محكومة بالكارتيلات العقارية. لذا، فإنه رغم أن مصرف لبنان عزل المصارف عن الاستثمار في المشتقات المالية ومخاطر التوظيف الخارجي للأموال، إلا أنه كان يفعل ذلك من أجل تلبية حاجات البونزي المحلية المتزايدة. بهذا المعنى، كان الانخراط في المخطط اللبناني أكثر جاذبية بسبب ربحيّته السهلة (ويظهر ذلك من خلال الأرباح الخياليّة التي حققتها المصارف اللبنانية منذ ما بعد الحرب الداخلية اللبنانية). على ضوء ذلك أصبح لبنان جاذباً لمزيد من الاستثمارات المباشرة خلال الأزمة العالميّة.

أنقر على الرسم البياني لتكبيره

لكن لماذا ذهبت هذه الاستثمارات إلى القطاع العقاري؟ وجود البونزي يفسّر الكثير من المنطق الذي ساد في ذلك الوقت. فقد كانت هناك أسطورة تشير إلى أن القطاع العقاري في لبنان لا يخسر، وربما يصاب بالجمود فقط لا أكثر. وقد روّج لهذه الأسطورة كثيراً من أجل تزخيم قدرة الاستقطاب المالي لدى المصارف. وبشكل أساسي كان هناك نوعان من التدفقات: تدفقات المغتربين، تدفقات المستثمرين. المغتربون لم يكونوا ذوي خبرة في القطاع وفي الشؤون المالية، فلم يروا من هذه الفقاعة سوى أرباحها. أما المستثمرون فقد وظّفوا الأموال في المضاربات العقارية على الأراضي والشقق ثم انسحبوا سريعاً عندما أتيح لهم ذلك. فاعتباراً من عام 2010، على سبيل المثال، بدأ الخليجيون يبيعون العقارات التي اشتروها في لبنان قبل سنوات بأسعار مضاعفة أكثر من ثلاث مرات. لكن المسار الذي ساد اعتباراً من عام 2007، تغذّى على توقعات السوق التي تشير إلى أن الأسعار إلى مزيد من الارتفاع، إلى المضاربات الساعية للربح. وهذه هي البيئة التي يتحدّث عنها كينز، أي البيئة المؤاتية لخلق فقاعة مضاربات.

تغذية الفقاعة
بعد عام 2011، انخفضت تدفقات رأس المال الأجنبي إلى لبنان. وتزامن هذا الأمر مع اضطرابات أمنية في المنطقة أبرزها في سوريا، ما أصاب القطاع العقاري بضرر بالغ، إذ انخفض الطلب على العقارات بشكل كبير. ولم يكن من مصلحة القطاع المصرفي انفجار الفقاعة، التي تشكّلت بين عامَي 2007 و2010 نظراً للتداخل الكبير بينهما بما أن القطاع المصرفي غارق جداً في قروض المقاولين وقروض الإسكان. لذا، قرّر مصرف لبنان التدخّل مباشرة في السوق عبر ما يُسمّى بالسياسات «شبه - المالية». عُرفاً، المصرف المركزي يختصّ بالسياسات النقديّة حصراً، إلا أنه يمتلك الأدوات التي تخوّله القيام بسياسات شبه ماليّة يمكن اعتبارها كنوع من الدّعم. وقد انتشرت هذه الظاهرة عالمياً بعد الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008، إذ بدأت المصارف المركزيّة تلعب أدواراً شبه ماليّة عبر دعم القروض لقطاعات معيّنة.

38.6%

هي حصّة تسليفات السكن والبناء من إجماي محفظة التسليفات في لبنان في نهاية الفصل الأوّل من العام الجاري


لكن مصرف لبنان، بدأ هذه الممارسة منذ عام 1997، لتحفيز الإقراض المتوسط وطويل المدى للقطاع الخاص، بحسب البنك الدولي. وفي عام 2009 بدأ جولة جديدة من السياسات شبه الماليّة لتحفيز الإقراض إلى القطاع الخاص. فاستخدم عدّة أدوات لفعل ذلك.
- دعم الفوائد على القروض: أن يُقدّم المصرف قرضاً للقطاع الخاص بمعدّل فائدة معيّنة، يغطّي الجزء الأكبر منه مصرف لبنان ويدفع المُقرض الباقي.
- خفض نسبة الاحتياطات الإلزامية للمصارف لدى مصرف لبنان لتأمين سيولة أكبر للمصارف لإقراضها إلى القطاع الخاص.
- خفض المطلوبات التي تُحتسب على أساسها الاحتياطات الإلزامية. والاحتياطات الإلزامية هي نسبة من الودائع يفرض المصرف المركزي إيداعها لديه، لكنه يعود له أن يقرّر إعفاء المصارف منها، أو السماح لهم باستعمالها للتسليف في السوق بفوائد محددة. وهكذا يكون الأخير قد حفّز المصارف لإعطاء القروض لقطاع معيّن أو لعدّة قطاعات.
وبحسب البنك الدولي، كان لقروض الإسكان الحصّة الأضخم من هذه السياسات شبه الماليّة. فقد بلغت حتى عام 2015 نحو 80% من التخفيضات في الاحتياطات الإلزامية، و23% من التخفيضات في المطلوبات. وبحلول عام 2015 كان الطلب على العقارات في لبنان قد انخفض بشكل كبير. فقام مصرف لبنان عام 2017 باللجوء إلى السياسات شبه المالية بشكل متطرّف. فعمد إلى خفض معدّل الفائدة على قروض الإسكان المدعومة من 5% إلى 3%، كما رفع سقف هذه القروض من 800 مليون ليرة إلى 1.2 مليار ليرة.... ما أسهم في إعادة الطلب على العقارات إلى مستوى ما قبل عام 2015، وساهم في استمرار تضخّم الأسعار بوتيرة سريعة.

دورة متكاملة
لم يكتفِ القطاع المصرفي بدعم قطاع العقارات، من خلال ترويج وتشجيع الطلب على العقار، بل كان له دور أساسي في ترويج وتشجيع زيادة العرض أيضاً. فقد شكّلت المصارف محفظة تمويل للقطاع على مدار العقود الماضية. وكان قطاع البناء ثالث أكبر مقترض من المصارف اللبنانيّة على مدى السنوات الأخيرة الماضية، خصوصاً في العقد الأخير، قبل انفجار الأزمة. قد لا يكون هذا الأمر عبارة عن سياسة عامّة رسميّة، فلا يوجد أي قرار رسمي يدفع المؤسسات الماليّة لإقراض قطاع البناء (كما كان الحال مع قروض الإسكان). إلا أن شبكة المصالح المتداخلة بين النخب الاقتصادية، من مصرفيين ومقاولين كبار، تسهم في جعل قطاع البناء من أبرز القطاعات المحظيّة في ما يخص التسليفات المصرفيّة. بالطبع يأتي قطاع البناء خلف قطاع التجارة والخدمات المحكوم بالاحتكارات النافذة في الاقتصاد اللبناني، ما يجعله يحظى بحصّة أكبر من التسليفات.

المصالح المتداخلة بين المصرفيّين والمقاولين منحت قطاع البناء حصّة وافرة من التمويل


هناك تقارب ملحوظ بين محفظة تسليفات قطاع البناء ومحفظة القروض السكنيّة. هذه المفارقة توضح كيف قام القطاع المصرفي بخلق دورة عرض وطلب في قطاع العقارات، عبر تمويل الطرفين في الوقت نفسه بالقيمة نفسها، خصوصاً بعد انخفاض التدفقات الرأسماليّة الأجنبية إلى البلد بعد عام 2011.

ما بعد الأزمة
قبيل الأزمة الماليّة-النقديّة-الاقتصاديّة التي أصابت البلد في عام 2019، لم يعد مصرف لبنان، ولا المصارف، قادرين على تمويل الفقاعة العقاريّة التي حافظوا عليها على مدى العقد الماضي. فحصلت صدمة في عمليات بيع وشراء العقارات. وفي حين انخفضت الأسعار عمّا كانت عليه سابقاً إلى نحو النصف، إلا أن الفقاعة لم تنفجر بعد ولم يشهد القطاع انهياراً فعلياً في الأسعار.
فمن جهة الطلب، ما زال هناك استثمار محدود قائم على الفرص المتاحة بأسعار منخفضة «لقطة»، وهو أمر مموّل من بعض المغتربين الذين لم تعد المصارف مقصداً لرؤوس أموالهم ويبحثون عن فرص حقيقية.
أما من جانب العرض، وهو يشكّل العامل الأكبر لبقاء الأسعار على حالها، فهناك ممانعة من جهة المالكين لاتجاه السوق الذي يفترض أن ينتهي بانخفاض الأسعار. صحيح أن المبيعات بالأسعار المعروضة حالياً ينطوي على خسائر، إلا أنه لا يصحح الانحراف الفعلي بين القيمة والسعر. وقد يكون أحد تفسيرات ممانعة انفجار الفقاعة، هو انعدام المساواة في تركيبة مالكي العقارات. إذ تمتلك الجزء الأكبر من الثروة في البلد طبقة مقتدرة غير مضطرّة للبيع السريع، وقادرة على الاحتفاظ بأملاكها طمعاً بارتفاع الأسعار لاحقاً، «بعد حل الأزمة». لكن مع ضعف التمويل، سيصبح الطلب على العقارات شبه منعدم، ما يؤدي إلى انفجار الفقاعة. الأموال المتوافرة في المصارف لم تعد كافية لتغطية طلب واسع، وهي أصلاً غير مقبولة في التعاملات، ما يعني أن التمويل بدأ ينضب ويصبح محدوداً ومحصوراً، وهو ما ينبئ بأن المسار نحو الانفجار، وليس تنفيس الفقاعة، ينطوي على فرص مرتفعة أكثر من السابق.