ثمن استعادة الثقة أضعاف ثمن الحفاظ عليها. ففي حالة نادرة من الفشل الجَماعي لكلّ المؤسسات العاملة في قطاع معيّن، وبعد عقود من الجهد وعشرات ملايين الدولارات التي صُرفت على التسويق والإعلان تحوّلت المصارف اللبنانية إلى علامات تجارية «سامّة» بفقدانها التام لثقة المودعين والزبائن الذين تحولوا إلى «رهائن» ينتظرون الساعة التي يتمكنون فيها من سحب ودائعهم، والتوقف نهائياً وإلى أجل غير مسمّى عن التعامل مع المصارف الموجودة. وهذا أدّى إلى إحجام عن التعامل مع المصارف والتركيز على «اقتصاد الكاش» مع ما يشكل من محدودية وعدم مرونة.الأسباب التي أوصلت القطاع المصرفي إلى هذه الحال هي جزء من مشكلة اقتصادية ومالية، أكبر جوهرها سياسات خاطئة قامت على خدمة مصالح المنظومة السياسية والمالية التي حكمت البلد بعد توقف الحرب الأهلية على حساب بناء اقتصاد قوي وفاعل يستفيد من الميزات التفاضلية للبنان واللبنانيين. أمّا الجريمة الكبرى فهي أن من بنى هذه التركيبة كان يعلم أنها آيلة إلى السقوط، وقد حضّر خطة للهروب تضمن مصالح وثروات مجموعة صغيرة من المحظيين وحلقتهم الضيّقة بينما يطبق الفخ الكبير على الناس وودائعهم وحياتهم ومستقبلهم وكل نشاط منتج ثم يُترك التضخم والفقر ليجرفا كلّ شيء ويمحوَا آثار المجزرة.
في ما يلي بعض الأفكار لإعادة الثقة وإحياء قطاع مصرفي فاعل ومحترف يشكّل قاطرة للنهوض الاقتصادي:
1 - ضمان مبدأ عودة كامل الودائع وبعملة الإيداع. فمن دون هذه الخطوة لن يكون هناك عودة للثقة ولا لتدفّق العملات الصعبة، لا حالياً ولا مستقبلياً، في قطاع قائم على الثقة ثم الثقة ثم الثقة، ولاحقاً الخدمات المصرفية المحترفة. مع الحصول على هذا الضمان الواضح من قبل الدولة اللبنانية بكلّ مؤسّساتها، يمكن أن يُصار إلى التحقّق من مصادر الأموال المحجوزة في المصارف وعملتها الأساسية حين دخولها إلى النظام المصرفي، ونسبة الفوائد التي حصل عليها كل حساب مصرفي وذلك حسب القوانين المرعية (قانون النقد والتسليف وقانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب وغيرها). كذلك، يمكن أن يصار إلى النظر في جدولة إعادة هذه الودائع على فترة زمنية محددة. كما يجب النظر في مسألة المبالغ الكبيرة التي خرجت من النظام المصرفي اللبناني بطرق استنسابية وتركيبات مالية (ودائع ائتمانية) استناداً إلى معلومات من داخل النظام المالي، بينما استمر المسؤولون في طمأنة الناس ودعوتهم إلى جلب الودائع إلى المصارف اللبنانية، ما شكّل خدعة للمودع العادي وخدمة لقلّة من أصحاب النفوذ المحظيين.
2 - التفاوض مع مصارف أجنبية معروفة ومن بلدان مختلفة، للدخول بشكل وازن في رساميل عشرة مصارف جديدة يتم إطلاقها. ويصار إلى فتح المجال لمساهمين لبنانيين أو مصرفيين حاليين للمساهمة في المصارف الجديدة، وحسب شروط معينة تراعي العدالة، وبعد التأكد من عدم تورّطهم في الممارسات العالية المخاطر والتحويلات المجحفة والانتقائية التي حصلت خلال فترة الأزمة وما سبقها.
3 - خلق سلطة رقابة على القطاع المصرفي مستقلّة تماماً عن مصرف لبنان، ومهمتها حُسن تطبيق القوانين والمعايير المصرفية العالمية. يمكن إعطاء هذه الهيئة دور تطوير القطاع المصرفي وتمدّده خارج حدود لبنان، لتصبح هذه المصارف (المحدود عددها) إقليمية وعالمية يمكنها استيعاب الخبرات اللبنانية الجيدة الموجودة التي ستفِد إلى سوق العمل في السنوات المقبلة.
4 - خلق مؤسّسة مصرفية مشتركة من القطاعين العام والخاص تُنقل إليها من المصارف القائمة حالياً، ديون الدولة اللبنانية والمصرف المركزي وديون الأفراد والمؤسسات المشكوك في تحصيلها، لتتم متابعتها وتحصيلها. يكون على كل مصرف أن يوازن حجم الديون المنقولة من موازنته إلى هذه المؤسّسة بتقديمات عينيّة وعقارية. يحصل كل مصرف على حصّة من هذه المؤسّسة بحسب تقديماته. ويُطبّق مبدأ الموازنة بين حجم الديون والأصول المنقولة إلى هذه المؤسسة على مصرف لبنان وعلى الدولة اللبنانية أيضاً مع إمكانية حصر الاستفادة من أصول الدولة والمصرف المركزي بعائداتها من دون إمكانية تسييلها.
5 - تنظيم انتقال تدريجي للمودعين إلى المصارف الجديدة مع قيام هذه المصارف بدورها في الإقراض والاستثمار بهدف تنشيط القطاعات المنتجة المستهدفة (نذكر على سبيل المثال لا الحصر قطاعات التكنولوجيا، اقتصاد المعرفة، الصناعات والزراعات غير ذات القيمة المرتفعة، وغيرها من المجالات).

* خبير متقاعد في إستراتيجيات العلامات التجارية