أنا لا أريد عرض الأسباب التقنية للأزمة لأن هناك اتفاقاً على وجود ترابط ما بين الأزمة الاقتصادية والعجز في ميزان المدفوعات والحساب الجاري بالحدّ الأدنى منذ 2011، وأزمة المالية العامة المتفاقمة والسياسة النقدية لمصرف لبنان كلها مجتمعة أدّت إلى ما وصلنا إليه. إنما أريد التركيز على مسألة باعتقادي هي لبّ المشكلة وهي مسألة «الحوكمة»، وفي مقدّمة بسيطة عن أكبر الأزمات المالية في العالم كالتي حصلت في 2007 ـــ 2009 كما هو معلوم، ووفقاً للدراسات والتقارير الصادرة حول تلك الأزمة، يمكن استخلاص أنه إضافة إلى الأخطاء التقنية بموضوع كيفية إدارة الاستثمارات المصرفية، فإن ضعف الرقابة أو غياب الحوكمة الفعّالة أو الرشيدة ربما قد تكون ساهمت إما في خلق الأزمة أو في زيادة حدّتها، وهذا الكلام وارد في تقارير جهات عدّة منها الاتحاد الأوروبي ومنظمة OECD ولجنة بازل للرقابة المصرفية.

فقد أصدرت هذه الجهات توصيات بموضوع حوكمة المؤسّسات تؤكد أن المصارف هي حالة مغايرة للمؤسّسات غير المصرفية، لأنها مؤسسّات معقّدة ولديها منتجات وأدوات مالية تطرحها في السوق تعدّ أكثر تعقيداً من أصول وموجودات المؤسّسات غير المصرفية. وبالتالي هذا كان أحد أسباب الأزمة المالية. حتى إنّ الهيئات الرقابية واللجان الدولية فشلت في التقييم العادل الاستباقي للمخاطر الناجمة عن توظيفات المصارف. فتحديد القيمة السوقية للمصرف مسألة صعبة وخاصة عند الكلام عن أصول من خارج الموازنة ومشتقات مالية وأشباهها.
وبالانتقال إلى لبنان والمصارف بشكل خاص، نجد أن مصرف لبنان كان مواكباً من الناحية التشريعية لموضوع الحوكمة وأصدر تعميماً في 2006 لحقه تعديل بموجب قرار في 2011 يطلب فيه حرفياً من المصارف أن تلتزم المبادئ الصادرة والتي ستصدر عن لجنة بازل الدولية المتعلقة بتعزيز الإدارة الرشيدة في المؤسسات المصرفية. والمقصود هنا تقرير لجنة بازل الصادر عام 2010 والذي جرى تعديله عام 2015. هذا التقرير يتكلم عن تكوين مجلس الإدارة في المصارف والأعضاء المستقلين وغير المستقلين، وعن لجنة التدقيق ولجنة إدارة المخاطر وغيرهم، إلى جانب أبرز مكامن تضارب المصالح. وفي لبنان هناك نقطة مرتبطة بأصل المشكلة تتمثل بالأعضاء المستقليّن الذين يمارسون الرقابة بشكل موضوعي وتقني على الإدارة العليا. هل كان هؤلاء مستقلين وقادرين على ممارسة دورهم الرقابي؟ هل كانوا يملكون المعرفة والكفاءة؟ أم كانوا في مواقعهم بفعل التوريث أو علاقات شخصية مع الإدارة العليا. الواضح في التجربة اللبنانية أنهم لم يكونوا مستقلين وهذا ما أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن.
تعاملت المصارف مع مصرف لبنان على أنه استثمار خالٍ من المخاطر بينما ليس لديه الحق السيادي في طباعة الدولار


الأمر الآخر، كان ضرورياً إصدار كتيب إدارة المخاطر المفروض على كل مصرف أن يتبعه. والواضح في لبنان أن المصارف لديها هذا الكتيب لكنها لم تلتزم به بدليل التوظيفات لدى مصرف لبنان التي استحوذت على جزء كبير من موجودات المصارف بالعملات. وجرى التعامل مع مصرف لبنان على أنه استثمار خالٍ من المخاطر فيما هو ليس لديه الحق السيادي في طباعة الدولار ما يجعل التوظيفات بالعملات لديه تخضع لأوزان المخاطر المرجحة بحسب تصنيف البلد.
ومن المواضيع المرتبطة بالحوكمة أيضاً، هناك موضوع تضارب المصالح، وأبرز أنواعها في المؤسسات المصرفية هي تضارب المصالح بين الدائنين والمساهمين، وخاصة أن معظم موجودات المصارف ممّولة من الدائنين، أي من ودائع المواطنين. هنا يحصل تضارب المصالح عندما يسعى المساهمون إلى توظيف الموجودات في استثمارات عالية المخاطر بهدف تحقيق عوائد مرتفعة. وكلما ارتفعت احتمالية إفلاس المصرف ارتفعت توظيفات المساهمين في استثمارات عالية المخاطر من أجل تحقيق الأرباح العالية والهروب بالأرباح. هذا بالتحديد ما قامت به المصارف في لبنان على عكس مصلحة المودعين وخلافاً لأبسط معايير إدارة المخاطر.
هنا تبرز أهمية إعادة هيكلة القطاع المصرفي وتحقيق أقصى المنافع للمساهمين والدائنين والمجتمع ككل، بمعنى آخر إعادة هيكلة دور المصارف في الاقتصاد بالتوازي مع التصدّي لمشكلة تضارب المصالح ومراجعة إطار الحوكمة الرشيدة للمصارف بما يحفظ منافع كل أصحاب المصلحة (ٍStakeholders) وليس فقط منافع المساهمين (Shareholders).

* أستاذ جامعي