النيوليبرالية والاستثمار
الموجة النيوليبرالية التي عصفت بالعالم منذ منتصف الثمانينيات، قلّصت حدود تعريف الاستثمار. أشاع النيوليبراليون التشخيص القائل بأن الإنفاق الاجتماعي وتدخّل الدولة يتعارضان مع الرخاء الاقتصادي، حتى لو أدّى هذا الانفاق إلى زيادة مستوى التعليم ورفع الظروف الصحية للسكان، مع كل ما يحمله هذان العاملان من قيمة مضافة للإنتاج الاقتصادي. لذا، وُصفت الدولة بأنها مصدر مشاكل في العديد من البلدان، بحسب جاين جنسون في دراسة بعنوان «نشر الأفكار لما بعد النيوليبرالية». وقلّل الليبراليون الجدد، على الصعيدين الدولي والمحلي، من أهمية دور الدولة وعزّزوا «التعديلات الهيكلية» التي من شأنها أن تجعل توزيع الثروة عبر قوى السوق، وتجعل الأسر مسؤولة عن فرصها الخاصة للنجاح وتحقيق الرفاهية، وترمي مسؤولية تأمين شبكات الأمان الاجتماعي على كاهل المجتمع.
وكجزء من أجندة الإصلاح النيوليبرالية، بدأ فهم المواطنة والترويج لها على أنها مجرد اندماج فردي في السوق. وفي الوقت نفسه، كجزء من عملية «التعديلات الهيكلية»، يتم سحب الحقوق الموحّدة، التي تؤمّنها استثمارات الدولة في المجتمع، تدريجاً من العمال والطبقات الفقيرة، وتستبدل بالمشاريع الخيرية التي تؤمّنها أطراف ثالثة غير قوى السوق والدولة.
نموذج استثمار ما بعد الحرب
في لبنان، حين يتحدّث المدافعون عن السياسات الاقتصادية في العقود الثلاثة الماضية، عن الاستثمارات، يقصدون في العادة، أموال إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية، وأموال مؤتمرات المانحين (باريس واحد واثنين وثلاثة) ومؤتمر سيدر (الفرصة الكبرى الضائعة!!). سرعان ما يتبيّن أن تعريفهم للاستثمار يستمدّ شرعيته من الجذور النيوليبرالية لمشروع الرئيس رفيق الحريري. فهو تعريف يستثني الإنفاق على قطاعات ذات طابع اجتماعي رغم أنها تنطوي على فرصة لخلق قيمة اقتصادية مضافة، كالتعليم والصحّة مثلاً اللذين أُقصيا بشكل ممنهج من فاتورة الإنفاق العام. وحتى مع إقصاء كهذا، فإن ما حقّقته هذه السياسات لم يكن له أي قيمة استثمارية حقيقيّة.
يقول غسان ديبة، في دراسة بعنوان «المساعدات الخارجية والتنمية الاقتصادية في لبنان ما بعد الحرب»، إنه يمكن تقسيم المساعدات الخارجية في لبنان ما بعد الحرب إلى مرحلتين، كل واحدة تحمل سمات مميزة ذات آثار بعيدة المدى على تطور المسارات الاقتصادية ما بعد الحرب الأهلية. ففي المرحلة الأولى التي استمرت بين عامَي 1992 و1997، تم توجيه المساعدات الخارجية بشكل أساسي نحو توفير الموارد لمشاريع إعادة الإعمار بعد الحرب. بينما شهدت المرحلة الثانية انطلاقاً من عام 1997 تحولاً نوعياً في كيفيّة استخدام المساعدات الخارجية. فتحوّل تدفّق الأموال من تلبية احتياجات إعادة الإعمار، إلى تلبية احتياجات تأمين الاستقرار المالي واحتياجات تأمين التوازن في ميزان المدفوعات. وسمح هذا التحول للحكومة بالتدخل في سوق صرف القطع الأجنبي، والحفاظ على فوائض ميزان المدفوعات خلال هذه الفترة، ما خفّض أسعار الفائدة على أدوات الدين العام، ووفّر السيولة والثقة اللازمتين لمواصلة الحكومة اقتراض الأموال من المصارف التجارية المحلية والمستثمرين الأجانب». والأهم من ذلك، يضيف ديبة: «سمح هذا التحول في اتجاه دفق المساعدات الخارجية للحكومة بتجنب الأزمات المالية والنقدية في عام 2002. ومع ذلك، كانت كلفة هذا التحول النوعي كبيرة لجهة الإدارة المالية، وتحويل الأموال من إعادة الإعمار، وزيادة التبعية للاقتصاد اللبناني للمساعدات الخارجية لأغراض تأمين الاستقرار المالي والنقدي».
معظم ما يوصف بأنه استثمار ما هو إلا تمويلٌ لعجز مؤسسة كهرباء لبنان الناتج عن استهلاك المحروقات لتشغيل معامل الكهرباء. كلفة هذا العجز العالية، أتت بسبب الحفاظ على سعر صرف مرتفع لليرة اللبنانية مقابل الدولار. بينما الاستثمار في تطوير الشبكات والمعامل كان محدوداً جدّاً
عملياً، لا يمكن وصف أيّ من مرحلتَي تدفق أموال المساعدات على لبنان، بالاستثمارات تبعاً للتعريف التقليدي. فتمويل إعادة الإعمار لم ينتج منه تمويل حقيقيّ لتطوير البنى التحتية في لبنان. لا بل تُظهر الأرقام أن ما ضخّ في شبكات البنى التحتية والخدمات، متواضع نسبة إلى حجم الإنفاق العام في البلاد. فمثلاً الرقم الذي يُرمى عن استثمارات وُضعت في الكهرباء، لم يكن لاستثمارات حقيقيّة بل عبارة عن أكلاف تشغيليّة. معظم ما يوصف بأنه استثمار ما هو إلا تمويل لعجز مؤسسة كهرباء لبنان الناتج عن استهلاك المحروقات لتشغيل معامل الكهرباء. كلفة هذا العجز العالية، أتت بسبب الحفاظ على سعر صرف مرتفع لليرة اللبنانية مقابل الدولار. بينما الاستثمار في تطوير الشبكات والمعامل كان محدوداً جدّاً. أمّا المرحلة الثانية من تدفّق المساعدات، فلم تُستثمر أبداً إذا أقرّينا بتوصيف ديبة لتعريف الاستثمار، بل وُضعت في خدمة الخطة الهرمية الاحتيالية (بونزي) التي طبّقها القائمون على إدارة الاقتصاد اللبناني في سبيل الحفاظ على سعر صرف مرتفع لليرة اللبنانية وخلق قدرة استهلاك مضخّمة للمقيمين ترسم صورة ازدهار وهمي لاقتصاد يتم تدمير قطاعاته المنتجة بشكل منهجي. وفي المقابل حَرَمَ راسمو السياسات الاقتصادية، عموم اللبنانيين من الخدمات الاجتماعية الأساسية (مثل التعليم والطبابة المجانييْن على أقل تقدير)، والتي يمكن تصنيفها كاستثمارات. كان ذلك يتمّ تحت عناوين نيوليبرالية مختلفة تخدم هدف تصنيف الاستثمارات في هذه القطاعات، باعتبارها نفقات زائدة تضر بالماليّة العامة، وخصوصاً بعد عام 2001 حيث شارف لبنان على الدخول في أزمة شبيهة للأزمة اليوم.
إذاً أين الاستثمارات التي بُدّدت في أتون الصراعات وعدم الاستقرار؟ في الحقيقة لا يصحّ إسباغ صفة الاستثمارات على الأموال التي أُنفقت. لا يمكن توصيف هدف الدفق المالي بعد الحرب الأهلية بخلق القيمة المضافة في الاقتصاد اللبناني. وفي المقابل يمكن تفسير ما حصل، باعتبار أن الولايات المتحدة (الدولة المركزية في منظومة الاقتصاد العالمي) وحلفاءَها الإقليميين رعوا ضخّ الأموال بعد الحرب الأهلية لضمان بناء منظومة مالية واقتصادية تثبّت شكل التسوية التي حكمت لبنان ما بعد الطائف ضمن سياق نيوليبرالي. لذا، لم يستثمر أحد في تنمية لبنان وشعبه، لا الدول المانحة ولا الجهات المقرضة ولا القيّمون في لبنان على رسم وتنفيذ السياسات المالية والاقتصادية. يمكن الجزم بأنّه لا توجد أي استثمارات بُدّدت. بينما طرح الحلول المستدامة يجب أن يولد من رحم دراسة مسار فشل السياسات التي اتُّبعت بعد عام 1992، والأهم دراسة علاقتها العضوية بارتباطات لبنان بالدول التي أمّنت الأموال وأشرفت على إنفاقها.
اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا