«من الممكن تلخيص تجربة التنمية الصينية من خلال مبدأ واحد: استقلال القرار السياسي»لونغ وآخرون 2018

العلاقة التي تربط الأمن والتنمية، ميّزت مسار مرحلة ما بعد الاستقلال من الاستعمار فأحدثت ثورة في علم الاقتصاد السياسي مسلّطة الضوء على طبيعة دور الوكالة للأجنبي في توجيه السياسات المحلية. انطلاقاً من هنا، تواجه الصين إمبريالية تضطهد وتتوسّع من خلال الحروب بهدف زيادة معدل الاستغلال ومعدل فائض القيمة. وبالإضافة إلى عملية الاستغلال الضخمة والعسكرة، تُحكم الإمبريالية قبضتها على السلطة من أجل الاستيلاء على هذه الفوائض عبر القنوات المالية.
من حيث التعريف، الإمبريالية تقضي باستمرارية الحرب. هي تزدهر من خلالها. في مثل هذا العالم، تصمد الصين في وجه هذا الهجوم الممتد، خصوصاً أنها تتصدّى له عبر بناء البنية التحتية في العالم النامي. وهي تعمل كذلك، على تخفيف حدّة الفقر داخل حدودها، وصولاً إلى صونها لقوتها عبر الاحتفاظ بفائضها الاجتماعي من خلال تطوير مواردها المالية الخاصة (القادري،2017). إن هذه المواجهة مع الإمبريالية هي أحد أركان حقوق الإنسان. لا أريد أن أتحدث كثيراً عن التطور التقني للصين، فالبحوث تضجّ بمثل هذا الجدل. كل ما أريد أن أضيفه هو أن تقدّمها التكنولوجي عزّز الأسس التي قاتلت عليها الجماهير الصينية بنجاح وخاضت بذلك حرب الشعب.
أنجل بوليغان ــ المكسيك

إن فرضية ما يمكن أن تحقّقه حرب الشعب، في مظاهرها المتعدّدة سواء الأيديولوجية والدبلوماسية والعسكرية، هي شرط لا غنى عنه للتنمية وهي مفهوم يندر تبنّيه (حافظ، 2015)، فهنالك الكثير ممن يتحدثون عن السيادة والاستقلال، لكنهم يتحاشون ما هو واضح؛ أن كل ذلك يتطلب تمكين واستتباب الأمن في المقام الأول، وفي حالة الدول النامية الجماهير المسلّحة هي الأمن الوحيد. إن عدم ذكر هذا المفهوم نهائياً في عالم تقوده إمبريالية الولايات المتحدة والتي تقوم بكبح عملية التنمية من خلال العنف وفقاً لمتطلبات أزمات زيادة الإنتاج، يعدّ تواطؤاً معها.
في عصر الإمبريالية وفي ظلّ أحد أكثر أشكال التحكّم بالمجتمعات اغتراباً، تمسي الحروب على أنواعها بحدّ ذاتها تكويناً لرأس المال. لذا، بالنسبة إلى العالم النامي، فإن توأمة الأمن والتنمية، وهي نواة النموذج الصيني، تقدّم نفسها كبديل تاريخي. البديل التاريخي هو ما يتطلبه الحاضر للتمهيد للقدرة المستقبلية للدفاع عن النفس. وهنا نطرح سؤال، لماذا؟
ضمن حدود الإطار الذي تقوم عليه النيوليبرالية، يُكرّس نموذج بديل من الاستثمار في البنى التحتية والمصانع والمعدّات. هو نموذج تمّت تربيته إمبريالياً ليقوّض الاستقلال ويحوّل وجهة التنمية إلى جهود متعلقة بتحقيق الاستقرار أو حتى بتحقيق ديمومة زعزعته. ففي الأخير تحتّم الضرورة تمكين درجة معينة من الاستقرار حتى توجد الرفاهية لتتمكن الرأسمالية من التجذّر في الدولة وفي الفضاء العام.
وفي الدول المعرّضة لاختلال وزعزعة الأمن بشكل مستمر، فإنّ الطبقة الإمبريالية تعيش في كنف الدولة بشكل مستقرّ. الاستقرار هنا هو استقرار القاعدة والنواة المركزية لسيطرة رأس المال الأميركي، على عكس ديمومة حالة اختلال الأمن وانعدام الاستقرار التي تعيشها الطبقات الوطنية، وهو أمر يشكل هدفاً بحد ذاته. زعزعة استقرار التشكيلات الطرفية ونزع سيادتها، أمر يصبّ في مصلحة تعزيز الهيمنة الأميركية الإقليمية، لأن هذا التعزيز يعمل على تسريع عملية التراكم عبر التدمير وتمويله وإيرادات الحرب.
إن التمسّك بالإطار المفاهيمي للتيار السائد «The mainstream» الذي يغرس ويكرّس النيوليبرالية، يدفع رفد الموارد بعيداً عن العقود الاجتماعية والاقتصادية الوطنية نحو بناء أجهزة الدول القمعية، مفكّكاً عبر ذلك الدول خدمةً للإمبراطورية. كمثال على هذا التفكيك لننظر إلى ليبيا؛ لربما قامت الحكومة بقمع المئات من المعارضين السياسيين، لكن عملية التنمية المنصوص عليها في العقد الاجتماعي والاقتصادي استمرت. مع ذلك، ومن خلال قيام الولايات المتحدة بقصف أو تجويع الملايين وحشد مختلف القوى لإجراء المزيد من عمليات «إنقاذ الناس» عن طريق عمليات مبدأ «مسؤولية الحماية»، فإنها أكّدت ومكّنت هيمنتها من جديد على قوى الإنتاج الاجتماعي من أجل زيادة الريع الإمبريالي. وبشكل مباشر بعد عملية التدمير التي تقودها الولايات المتحدة يتحوّل قمع الدولة وحرمانها للناس من الحقوق الأساسية إلى حالة من الوحشية الهائلة. فهنالك مستويات مختلفة من القمع والتوحش بين كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى والعراق. هذا الاختلاف يمكّن الإمبراطورية من التمتّع بالقوة والثروة الإضافيتين لعرقلة التنمية في أماكن أخرى.
إنّ تجاوز معدّل الربح لمعدّل النموّ ليس نتيجة غير مقصودة لثقافة معدنها الخير بل إنه متجذّر في العسكرة والموت الذي تقوم عليه الأمم الإمبريالية والقيمة الفائضة التاريخية لأوروبا


من رحم ولادة العنف بين الطبقة العاملة غرست عملية إدماج عمال في المنظومة الاقتصادية القائمة أيديولوجية ثوريّة في وعيها. من هذا المنطلق تعمل الإمبريالية، بقيادة الولايات المتحدة على دمج عمال بهدف خلق النزاع وزعزعة الاستقرار لكسب الريع عبر حصصها من الأجور المنخفضة للعمال، ثم تقوم بتصفية الأصول المحلية لتتيح لنفسها احتكار أصولها المالية الخاملة. فالمؤسسات بما في ذلك الدول، يعاد صياغة ذهنيتها لتتشرّب النيوليبرالية، ولتنمو تحت وطأة النمو الاقتصادي الأجوف وغير المنظم والخصخصة وتصفية الأصول الوطنية، وكذلك الدولة ككل. ما يقوم به الكمبرادور من الممارسات المفرطة عبر استخدام أدوات الدولة بما هو غير ضروري وفي غير وظيفتها الرئيسية يسهم في الهزيمة الذاتية لشخصية الطبقة العاملة المحلية.
مثل التاريخ تماماً، فإنّ الطبقة المالية وفرعها الكمبرادوري أطراف غير شخصية بشكل حتمي. بالنسبة إلى الإمبريالية إن تدمير الدولة هو بحدّ ذاته إنتاج اجتماعي. قانون حركة رأس المال، والطاقة التي يجمعها أثناء تصفية أو تحويل الأصول العامة إلى خاصة، يحفّز أيضاً الانقسام الاجتماعي على امتداد طيف الهويات السياسية، فتمزق الطبقة العاملة نفسها بدلاً من أن تمزق رأس المال. الانقسام هو مصدر سوء توزيع الدخل في المجتمع. في المستوى الأول يكون التمايز في مستويات الدخل ومقدار الثروة هو نتيجة للانقسام الطبقي القائم بين الطبقة الشمالية والجنوبية في العالم، بينما يلعب الانقسام في الهويات الثقافية التي أعيد إحياؤها من الماضي عبر بنادق الإمبريالية للسيطرة على رؤوس الأموال الطرفية كمستوى ثانٍ.
إن مقاربة الموارد المتاحة بشكل سطحي من دون إعطاء الأولوية لنوع الوكالة التاريخية التي تتوسط لتؤثّر على قرارات التنمية، هي وقوع رهينة للمبادئ المموهة. فالتيار السائد يقوم بصياغة العلاقة بين المتغيرات الكلية والمتغيرات الاجتماعية بشكل يجعل من الصيغ الاقتصادية منزوعة المحتوى الاجتماعي التاريخي. الصيغ هنا، هي علاقة متغيرات مجرّدة مع بعضها البعض، بشكل يناقض جوهر العوامل الناظمة للمجتمع. هي عبارة عن عوامل ذات تركيبة ديناميكية معقّدة وهي ذاتها جزءٌ من تركيبة ديناميكية أخرى أكبر. فما الصرامة الرياضية والحسابية للعلوم الاقتصادية السائدة اليوم إلا محاولة خبيثة للتغطية على الميل الأيديولوجي. وبطبيعة الحال، في سياق ديناميكي معقّد، تنتج محاولة ضبطه وتحديده بشكل مفرط عبر محاولات القياس الكمي ونظم القياس المختلفة نتائج اعتباطية تماماً.
ما هو غرض قياس عدم المساواة في الدخل في كل مكان من دون ذكر تاريخ رأس المال وعلاقته بالقيمة؟ ما كل ذلك سوى محاولة سفسطائية لتبرير الهمجية الأوروبية. إن من السخافة تبرير الواضح بالواضح، فهذا ليس علماً. إن تجاوز معدل الربح لمعدل النموّ ليس نتيجة غير مقصودة لثقافة معدنها الخير، بل إنه متجذّر في العسكرة والموت الذي تقوم عليه الأمم الإمبريالية والقيمة الفائضة التاريخية لأوروبا. بل إن العلم يبحث، على سبيل المثال، عن أسباب تقبّل الطبقة العاملة في أوروبا على مدى السنوات الخمسمئة الماضية الإبادة الجماعية لنحو مليار شخص في حروبها الاستعمارية، وما زالت تفعل ذلك.
لا يتطلب الأمر كهف أفلاطون لتبيان أن ذلك النمط من العلم غير واقعي. رأس المال يولّد الثروة وقد أنتج الكثير من الثروة تحت الوصاية البرجوازية. ومن حيث يقف المرء اليوم، الثروة هي الهدر، ولم يكن هناك أي تقدّم حاسم في ظل الرأسمالية، الثروة هي ضرر لا يمكن تعويضه على الإنسان وعلى الطبيعة.

* مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».
- تعريب موسى السادة