ساهمت النيوليبرالية وامتدادها المالي في زيادة انعدام الأمن في العالم، بحيث إنهما يؤديان إلى تآكل سيادة الدول. لكن الصين نجحت في تحاشي ذلك، وحافظت على سيادتها وعلى التنمية. هذا الأمر خوّلها أن تكون بمثابة النموذج. هو أمر لم يأت نتيجة اتساعها الجغرافي فقط، بل هو متعلق بشكل أكبر بالقوى الاجتماعية التي تمّت إعادة تشكيلها لتكوين نمط من الإنتاج هدفه الرئيس إنتاج السلع للغايات المدنيّة، بشكل نقيض للغايات العسكرية. فالقدرة على تحقيق التنمية خارج الإطار والهدف العسكري، والتمكن من التملّك خارج حدودك الوطنية في كوكب يقع عملياً تحت حكم وملكية الإمبراطورية الأميركية، بالإضافة إلى إصدار القروض الميسّرة للتنمية والسيطرة على جزء كبير من دائرة قيمة الاستخدام، هي في نهاية المطاف عملية امتلاك لحصّة في التاريخ، وهو أمر لم تقدر دول كبيرة أخرى كإندونيسيا أو الهند أو البرازيل أن تصل إليه ولو إلى حدّ قريب.
داريو كاستيليخوس ــ المكسيك

سهّل النفوذ الصيني مناورة روسيا في سوريا. ما لا يمكن تجاهله أن نجاح الصين في إجراءات تخفيف حدّة الفقر هو نجاحات لا تُعزى إلى اقتصاد السوق الذي ينتج الرفاهية من خلال معاناة العمال. هذه الملاحظة تعطي مصداقية للنظرية القائلة بأن الحزب الشيوعي مُهيّأ بشكل ذاتي للتنمية الوطنية من خلال الدولة والتي يكون العمال فيها مكوّناً عضوياً، ويمتلكون نفوذاً من خلال التحكم بالممتلكات. فالاشتراكية ذات الخصائص الصينية، تعني أن كل شيء هو عبارة عن إعارة من الدولة. فكرة أن الحزب الشيوعي يعمل ضمن سلسلة أوامر مركزية هي فكرة مثالية إلى حدّ ما، فلا شيء يعمل بأوامر من الأعلى وينجح ما لم تكن له روابط عضوية ومصالح متّصلة بالجماهير.
وبشكل متّصل، فإن الجدل عما إذا كان الاتحاد السوفياتي أو أي دولة اشتراكية، تمثّل دولة عمّالية أو دولة رأسمالية، فإن هذا الجدل ينطلق من فكرة إسقاط الواقع العملي على التصوّر النظري المسبق، وهذه الفكرة بحدّ ذاتها جزء لا يتجزأ من البنية الأيديولوجية الإمبريالية. وفقاً لماركس (1845)، إن النظرية تمارس على عكس الاعتقاد السائد بأنها تطبّق أو تسقط، والعمل الثوري هو إيجاد واكتشاف النقد خلال الممارسة، لذا فإن طريقة ومنهجية ممارسة النظريات تكونان عبر ممارسة تلك النظريات على الأرض. سواء كانت التحليلات والتقييمات المتحيّزة حول أي دولة من دول العالم الثالث الجائعة التي بالكاد تستطيع إطعام نفسها تمثّل رأسمالية-الدولة أو دولة عمالية متداعية، هي تحليلات غريبة على المنهج التاريخي الماركسي. فالوهن الهيكلي للاتحاد السوفياتي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية هو أمر تتجاوزه هذه التحليلات المختزلة. والبنية العمالية المتبقية تم محوها خلال الحرب عبر الفاشية المدعومة امبريالياً. وفي نهاية الحرب، كان الاتحاد السوفياتي عملياً قد خسر الحرب جراء هذا النزف البشري، ثم أنهت الحرب الباردة بقايا بنيته العمالية. إنّ مجرد حصول هذا الجدل في المركز الإمبريالي الذي قام ازدهاره تاريخياً، ويقوم لغاية اليوم، على المراكمة لفائض القيمة وهدر الأرواح ومهاجمة وتفكيك أي دولة نامية سواء أكانت اشتراكية أم رأسمالية - لأن الدمار هنا بحد ذاته هو وسيلة وهدف لمراكمة فائض القيمة - هو جدل مريد وداعم للعملية والمنظومة التي تقف وراءها. وبدلاً من مناقشة الحروب التي عطّلها الاتحاد السوفياتي للولايات المتحدة، كان الجدل الماركسي الغربي يمثل الإمبريالية، وهي التي تتجادل مع نفسها حول لون الفريسة التي سوف تلتهمها.
سياسة أميركا لاحتواء الصين تتضمن رفد كوريا الجنوبية وتايوان بالموارد وقد بلغت قيمة الدعم الأميركي لكوريا 10% من الناتج المحلي


الإمبريالية هي رأس المال المكثّف في ظل الاحتكارات المالية، وهي حكم المنتجات والسلع بشكل ضخم وواسع. قد نركز أحياناً على مستوى الصراع في المجتمع، لكن من دون تحديد سياق واضح للقضية في إطار الاستهداف الإمبريالي المهيمن المحكوم بالمادة، فإن هذا الصراع وما يتحقق منه جزئياً يقوّض النضال الكلّي. ومن منطلق الفيلسوف الفرنسي لوي ألثوسير، فإن البنية الكليّة لمنظومة الهيمنة، هي عبارة عن شبكة من العلاقات المهيمنة. والصلة المركزية هنا هي عبر إضعاف شبكة العلاقات تلك من أجل بناء وصياغة نضالات المجتمع المحلي والتعاضد بينها. هنا يبرز دور الصين كقوّة منافسة للإمبريالية الأميركية، إذ إن الصين تسهم في تفكيك وإضعاف التصوّر المفترض للقوّة الأميركية وعلاقة ذلك بأيديولوجيتها النيوليبرالية، وكلما ضعفت صورة الولايات المتحدة فإن ذلك يضعف من أيديولوجيتها.
في الفترة التي تلت الحرب العالمية وقبل صعود النيوليبرالية، تمكّنت معظم الاقتصادات من التنمية بسبب تمتعها بدرجة معينة من الاستقلالية، وعبر تنظيم رؤوس الأموال وحسابات الميزان التجاري. كانت التنمية مرتبطة بالمحافظة على الموارد وتعبئتها ومن خلال إعادة تدوير الثروة الحقيقية والمالية داخل الدولة. ومع تآكل الحكم الذاتي في العصر النيوليبرالي، تلاشت التنمية، وتبع ذلك موجة ضخمة من تزوير الحقائق حول مرحلة التنمية تلك.
مع صعود النيوليبرالية، فإن المؤسسات المحكومة بمنطق السلع والتوسع الذاتي للقيمة تتحكّم بالتدفق الكلي للأسعار. هذه المؤسسات الغريبة، وخصوصاً المؤسسة الرسمية من بينها، حوّلت الظروف المجتمعية إلى أكبر قدر ممكن من الأرباح ودائماً في خدمة السلعة. أما المؤسسات ذات الطابع الشخصي، مثل شيوخ القرى، ففيها نزعة إنسانية أكثر من تلك المؤسسات «الغريبة» سواء كانت عبارة عن مراكز مالية رسمية ــ دولية، أو حلف الناتو أو سواهما. عملياً، كلما كان هناك تغريب للمؤسسات (من غريبة) كلما اتسعت الفجوة في المجتمع حتى من زاوية المعيشة والتنفس بهدف خدمة أقليّة تُعرف باسم «الرأسماليين». صحيح أنهم ليسوا محصنين من الأمراض الطبيعية، لكن لديهم ما يكفي من علاج وحياة أفضل لمدّة أطول. بل ولربما الشماتة والاستمتاع بوفاة الآخرين حولهم. في ظل الظرف التاريخي الحالي الذي تهيمن عليه آلية إنتاج الهدر والنفايات وإمكانية أن يؤدي ذلك إلى اختلال كارثي للتوازن الطبيعي وعليه مسار الكوكب، فإن الوضع الحالي ينطوي على كثير من المقامرة وليس من مصلحة أحد أن نبقى عالقين في بنية علاقات رأس المال.
تمكّن عدد قليل من البلدان من النجاة من ويلات النيوليبرالية. هنا تكثر الافتراءات المرتبطة بتجربة نجاح النمور الآسيوية، حيث تعاملت غالبية الأبحاث حول تلك التجربة مع واقع التعامل الأمني والمظلة العسكرية الأمريكية كما لو أن ذلك معطى أو متغير طبيعي في المعادلة. دعمت الولايات المتحدة إصلاحات الأراضي في كوريا الجنوبية وتايوان - رغم طابعها الاشتراكي - لخفض كلفة العمالة وتحرير يد الدولة لتمويل الصناعة. وكان تدخل الدولة عاملاً رئيسياً في التنمية خاصة في الزراعة، حيث تمّت تعبئة الموارد البيروقراطية لتوجيه أنشطة الإنتاج الزراعي لدعم مشروع التنمية الوطنية من خلال إنشاء روابط استراتيجية بين المشاريع الصناعية والزراعية. فمن ضمن سياسة احتوائها للصين، رفدت الولايات المتحدة كلاً من كوريا الجنوبية وتايوان بالموارد، حتى وصل الدعم الأميركي لكوريا إلى زهاء 10% من مجمل الناتج المحلي.
مهما كان النجاح الذي حققته هذه الدول، فقد يُعزى إلى أدوارها الوظيفية كمراكز للشرطة الإمبريالية. ونجاحها النسبي وصيرورة التنمية فيها تتعلق أكثر ببناء جيش مرتزقة للإمبراطورية بدلاً من التنمية البشرية الشاملة، حيث لا يمكن أن يُنسب هذا النموذج بشكل خادع إلى مجرد محاكاة إيديولوجية للسوق الحرّة الأميركية.
للاحتذاء بالنموذج الآسيوي، يجب على الدولة أن تبيع عمالها إلى جنود مرتزقة للإمبراطورية. في كثير من الأحيان، إن قصص النجاح الآسيوية تهدف إلى الربط عمداً بين التنمية والعلاقات الأمنية الإمبريالية، وخصوصاً أن التنمية تكتسب ولاء السكان المستعدّين للتضحية بالنفس من أجل الإمبراطورية. وبما أن نمور آسيا تعمل على توسيع هيمنة الولايات المتحدة، فإنها ستتلقى الكثير من المساعدة بدلاً من الاستثمار الإمبريالي، وإن كان ذلك لتوسيع معدلات أعلى من الاستغلال التجاري أو الاستغلال الممنهج لجيرانها الأكثر سكاناً في جنوب آسيا.
نظراً إلى اتصال النسيج الطبقي، فإن الهيمنة الأميركية المتزايدة تنطوي أيضاً على تأثّر بقية العالم النامي. هناك ستؤطّر عملية التنمية في العالم النامي بمكاسب ماديّة ضيّقة إذا قارناها بنموذج تنمية أممي، لنكون واضحين، هذا تطوّر فقط للدول الشمالية المسلحة تسليحاً جيداً ككوريا الجنوبية، وتايوان، وعلى حساب مساحة متزايدة من البلدان الفقيرة حولهما.
إن البلدان التي تتمتع بمستوى علاقة معين من الأمن والشراكة مع حلف الناتو، أو بمعاهدات ثنائية مع الولايات المتحدة، قادرة على توسيع أسواقها والولوج إلى رؤوس الأموال بدلاً من أن تكون ساحة ومصدراً لاستغلال تراكم رأس المال والحروب. تتيح لها مظلّة الأمن مدعومة بسياسات تحفّز إعادة تدوير رؤوس الأموال وطنياً، من تحقيق هذا المستوى من التنمية. ويمكن ملاحظة أن حفنة الدول التي تحقّق التنمية لتصعد إلى مصاف دول العالم الأول، كلها تجنّبت نيوليبرالية المراكز المالية الدولية أو وصفات السوق الحرّ، كما أنها لم تكن حتى كينزية النهج. هي ببساطة تمتّعت بامتيازات واستثمارات إمبريالية كبيرة تحت قناع المساعدات. ومع ذلك، فإن الحكم الذاتي الذي تتمتع به هو على سبيل الإعارة من قبل الإمبراطورية التي تقودها الولايات المتحدة. الدولة الوحيدة التي تطوّرت باستقلال ذاتي هي الصين.

* مفكر وأحد كبار أساتذة الجامعة الوطنية في سنغافورة ومعهد لندن للاقتصاد. من أبرز مؤلفاته «تفكيك الاشتراكية العربية» و«الحزام الواقي: قانون واحد يحكم التنمية في شرق آسيا والعالم العربي» و«التنمية الممنوعة».
تعريب موسى السادة

* مختارات من ورقة عمل أعدّها الكاتب وستنشر في ملحق رأس المال على حلقات