هل يوجد في لبنان «مليونيرات وطنيون وأذكياء»؟
في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2009، برزت منظّمة أميركية تضمّ مجموعة من المليونيرات الأميركيين، أطلقت على نفسها اسم «المليونيرات الوطنيون»، وتركّز خطابها على مطالبة السلطات بفرض المزيد من الضرائب على الأغنياء ،وتبنّي سياسات عامّة قائمة على تمثيل سياسي متساوٍ وأجرٍ معيشي مضمون لجميع العاملين ونظام ضريبي عادل.
بدأ هؤلاء نشاطهم السياسي بعشرة أعضاء قبل أن يتجاوزوا الـ200 عضو في فترة وجيزة، وعلى الرغم من وصفهم بـ«خونة طبقتهم»، إلّا أنّهم عبّروا عن قناعة تشكّلت لديهم بأنهم «مليونيرات أذكياء» على عكس «أترابهم»، الذين استفادوا من أصول البلاد، وحصدوا الحصّة الأكبر من الاستثمارات والأرباح والفوائد، وساهموا بتركّز الثروات وتعزيز اللامساواة الاقتصادية والبؤس الإنساني. برأيهم، أميركا لن تكون أكثر استقراراً وازدهاراً إلّا عندما يشارك جميع مواطنيها في تحمّل المسؤولية، وهي مهمّة لا يمكن أن يقوم بها إلّا الأثرياء لما يتمتّعون به من قدرة وقوّة. وكما في تجارب تاريخية سابقة، طرح هؤلاء على أنفسهم مهمّة «إنقاذ الرأسمالية» لا دفنها.
أطلق «المليونيرات الوطنيون» حملات عدّة ونجحوا بدفع الرئيس باراك أوباما إلى رفع معدّل الضريبة على الدخل الذي يزيد على مليون دولار في عام 2012، ورفع الحدّ الأدنى للأجور في عام 2014. وحالياً يركّزون جهودهم لإعادة العمل بقانون «تنظيم تمويل الحملات الانتخابية» لمواجهة «الاستيلاء التشريعي» الذي مارسه الأغنياء من خلال وضع مصالحهم الخاصّة على أولوية جدول الأعمال السياسي، ما ساهم في اتّساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتفاقم الاضطرابات السياسية.
في لبنان، هناك قلّة قليلة استفادت من «النظام» لمراكمة الثروات والأرباح. وفي دراسة أعدّتها الباحثة في جامعة باريس للاقتصاد، ليديا أسود، حول تركّز الدخل والثروة، تبيّن أن «10% من السكّان بين عامي 2005 و2014 استحوذوا على 55% من الدخل و70% من الثروة، و1% فقط منهم استحوذوا على 25% من الدخل و40% من الثروة».
يوجّه المسؤولون في الدولة دعوات إلى الناس لبذل المزيد من التضحيات، إلّا أنهم قلّما يخصّون الأغنياء بهذه الدعوة، بل يجري تطمينهم دائماً بعدم وجود نوايا لزيادة الاقتطاعات الضريبية المفروضة عليهم، ويتمّ منحهم المزيد من الإعفاءات والتسويات الضريبية والدعم من المال العام. فهل يمكن أن يظهر في لبنان «مليونيرات وطنيون وأذكياء» في ظل عجز الطبقات الاجتماعية الأخرى عن التعبير عن مصالحها؟
في ما يلي «تمرين» على ما يمكن أن يطرحه هؤلاء على صعيد التضحيات المطلوبة من الأغنياء في مواجهة الأزمة القائمة:

كسر الاحتكارات والامتيازات والكارتلات القائمة

رامي النمر
رئيس مجلس إدارة – مدير عام FNB

التضحيات واجب على الغني والفقير في أي مجتمع أو اقتصاد يحتاج إلى بناء أو إعادة هيكلة، إلّا أن القبول بالتضحية يفترض وجود قواعد واضحة وغير رمادية. تكمن مشكلة لبنان بعدم تحديد هويته الاقتصادية لليوم، وهو ما ترافق طوال هذه الفترة مع إدارة سيّئة طغت عليها المحاصصة التي عزّزت الريع على حساب الإنتاج وتراجع الفعالية، وهو نموذج لم يستفد منه سوى القلّة القليلة في هذا البلد.
راكمت هذه القلّة، من المنتفعين اقتصادياً أو سياسياً، ثرواتها من العقارات والفائدة. إلّا أن ذلك لا يعني أن كلّ الأغنياء جمعوا ثرواتهم بهذه الطريقة، فهناك من هاجر واغترب عن بلده وعمل وكدّ وجمع ثروته. من هنا، يجدر التمييز بين الغني الشرعي والغني غير الشرعي، وبين الغني الملتزم بدفع المتوجّب عليه والغني المتهرّب من واجباته.


لذلك، قبل طرح أي إجراء علمي أو تطويري أو تقدمي للمستقبل، يفترض بداية معالجة المشكلات القائمة، وذلك من خلال فرض الضرائب الصحيحة، والأهمّ من فرضها هو تحصيل هذه الضرائب، ولا سيّما من المتهرّبين سواء كانوا أفراداً أو شركات، وهناك العديد من الطرق المتطوّرة والذكية القادرة على تتبع الأرباح المهرّبة والمخفية، وتحديد حجمها استناداً إلى حجم الأعمال المُحقّق. يضاف إلى ذلك، تحديد هوية اقتصادية للبلد تكون قائمة على الإنتاج والفعالية والكفاءة وإشراك الناس والصناديق بالمشاريع الإنتاجية عبر فتح المجال أمامها لضخّ رساميلها في المؤسّسات المربحة والقطاعات المُنتجة، بدلاً من تركها حكراً على عائلات محدّدة أو قلّة منتفعة. يشكّل هذا الطرح منطلقاً للخروج من الأزمة وبناء ثروة تعتمد على الإنتاج. إنه إجراء يكسر الاحتكارات والامتيازات والكارتلات القائمة، ويعدّ بمثابة تضحية كبرى من القلّة المستفيدة من النموذج القائم الذي ولّد الثروات من الريع والفساد والتهرّب الضريبي.

فرض ضريبة على العقارات والأراضي

آلان طابوريان
صناعي، ووزير سابق

مشكلة الاقتصاد اللبناني أنه غير مُنتج. نحن نستورد بـ20 مليار دولار ونصدّر بـ3 مليارات دولار سنوياً، فيما نموّل العجز من تحويلات المغتربين والديون ومال الاحتياطي. أدّى ذلك إلى رفع معدّلات الفائدة وأسعار الأراضي التي استفاد منها كبار الدائنين والمودعين ومالكو الأراضي وتجّار العقارات، وحال دون بناء البنية التحتية الأساسية وتطويرها وتعزيز الاقتصاد المنتج. وأكثر من ذلك، استُهلكت أموال المودعين في المصارف، ووصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.


من هنا، التضحية الأساسية والأكثر فعالية يفترض أن تقع على عاتق مالكي العقارات والأراضي وإن كان بعضهم أعضاء في البرلمان أو وزراء أو رؤساء. لماذا هؤلاء؟ في الواقع، يشكّل سعر الصرف الحقيقي، أي الذي يعبّر عن كلفة الإنتاج في لبنان، العائق الأساسي أمام تطوّر الاقتصاد وتعزيز الإنتاجية وتنافسية السلع المُنتجة محلّياً وبالتالي التصدير. ويعود ذلك إلى كون سعر الأراضي، شراءً أو إيجاراً، مرتفعاً جدّاً ويستحوذ على الحصّة الأكبر من مكوّنات كلفة الإنتاج لأي مشروع زراعي أو صناعي. وهو ما يؤدّي إلى بيع السلع المُنتجة محلّياً بأسعار مرتفعة بالمقارنة مع السلع المُنتجة في بلدان أخرى، وبالتالي الحدّ من قدرة سلعنا على المنافسة محلّياً وخارجياً.
لذلك، يعدّ فرض ضريبة على العقارات والأراضي أمراً حيوياً للاقتصاد، أي فرض ضريبة على الملكية العقارية سواء كانت أرضاً فارغة أو عقاراً مبنياً شاغراً وكذلك فرض ضريبة على عمليات شراء وبيع العقارات. وهو ما يؤدّي إلى خفض أسعار العقارات لأن المالك سيضطر لتأجيرها أو بيعها لتجنّب دفع الضريبة على عقاره غير المشغول، وأيضاً يؤدّي إلى خفض كلفة الإنتاج وزيادة الإنتاجية والتنافسية وتحسين الأجور.

زيادة معدّلات الضريبة على شرائح الدخل العليا

جواد عدرة
صاحب شركة «الدولية للمعلومات»

يعاني الاقتصاد اللبناني من تحكّم وسطاء وأصحاب نفوذ بالقرار الاقتصادي في البلاد، ويتمثلون بالهيئات الاقتصادية والأسواق والهيئات الدينية، وهم ليسوا إلّا أفراداً لا يخضعون للقانون يتمتعون بالنفوذ والامتيازات التي تسمح لهم بحصاد المنافع الأكبر. أمّا رجال الأعمال الفعليون أي الذين يملكون قوى إنتاجية وأعمالاً ومصانع ومشاريع تولّد فرص عمل وتخلق قيمة مضافة في الاقتصاد فلم يصمدوا وأفلسوا وخرجوا من السوق. ويعود ذلك إلى تطبيق قانون اللعبة بدلاً من تطبيق القانون. وهناك أمثلة كثيرة تتمثّل بالاحتكارات التجارية والتعدّي على الأملاك البحرية والتعدّي على البيئة بالكسّارات، وهي نشاطات لا يمارسها سوى كبار الأغنياء والنافذين ويحقّقون منها الأرباح الطائلة فيما تبقى مشاركتهم بخلق فرص العمل وبالعبء الضريبي متدنية للغاية، إمّا بسبب التهرّب من دفع الضرائب أو كنتيجة للنظام الضريبي القائم بحصّته الأكبر على الضرائب غير المباشرة.


بناء الدولة يتطلّب مسؤولية اجتماعية، وتزيد هذه المسؤولية في حال كنّا في أزمة، وهي مطلوبة من النافذين والقادرين أوّلاً. فنحن الأغنياء علينا أن نتخلّى عن جزء كبير من أرباحنا من خلال دفع المزيد من الضرائب لكي نساهم فعلاً بتعزيز العدالة الاجتماعية وتأمين الخدمات الأساسية المجّانية للجميع وأهمّها الطبابة والتعليم والإسكان. وهو ما يمكن تحقيقه من خلال تعديل النظام الضريبي ليصبح أكثر عدالة وإنصافاً عبر تحويل الثقل الأكبر على الضرائب المباشرة بدلاً من الضرائب غير المباشرة، وذلك عبر زيادة معدّلات الضريبة على شرائح الدخل العليا والتي تتضمّن كل المداخيل الناتجة من كلّ مصادر الدخل. وكذلك جعله أكثر متانة بما يصعّب إمكانية الالتفاف عليه والتهرّب من الضريبة.

التفتيش في خفايا أرباح الشركات والأفراد

هنري صفير
رجل أعمال في المجال المصرفي والإعلامي

هناك حالة شاذّة في لبنان، حيث تفرض الضرائب على الناس من دون تقديم أيّ خدمة عامّة أساسية في المقابل، فيما يتهرّب المستفيدون من كلّ الأعمال والأرباح التي تجنى في الدولة من دفع الضرائب. هؤلاء حقّقوا ثروات طائلة ولا يوجد لديهم حسّ وطني لكي يقبلوا بتقديم التضحيات. الدولة القائمة راهناً غير قابلة للإصلاح، لذلك إذا أردنا بناء دولة فعليها أن تكون الأقوى بكل المجالات، عسكرياً واقتصادياً ومالياً، وبالتالي هناك الكثير من الإجراءات المفترض تطبيقها، وهي تطال الأغنياء والنافذين وأصحاب الثروات المخفية.


للتخلّص من اقتصاد شريعة الغاب الحالي حيث القوي يأكل الضعيف، يفترض البدء بإصلاح ضريبي، أي إقرار نظام ضريبي عادل قائم على الضرائب المباشرة والتصاعدية، تفعيل عمل وزارة المالية ليكون لها القدرة على التفتيش في خفايا أرباح الشركات والأفراد المخفية بحجّة السرّية في الحسابات المصرفية وفرض معدّلات الضرائب المناسبة عليها، وهو أمر طبيعي وقائم في الكثير من بلدان العالم.
عملياً، يشكّل النظام الضريبي مقدّمة للتخلّي عن سياسة الحرمان المتبعة أو ما يطلقون عليها راهناً، سياسة التقشّف، على أن تُتْبع بتفكيك الاحتكارات لتخفيض الأسعار، ولا سيّما في قطاع الاتصالات الذي يستفيد منه بضعة أشخاص بدلاً من أن يكون ثروة للدولة والمواطنين، وفي القطاع التجاري لتفعيل الإنتاج المحلّي وتعزيزه، وفي القطاع المصرفي الذي يتغذّى من الملك العام والوفر الوطني بدلاً من أن يضخّ السيولة في الاقتصاد الوطني.

انتزاع «امتياز» التشريع من أصحاب المصالح

فادي خوري
صاحب فندق سان جورج

هناك فارق بين غني وآخر في لبنان. هناك أغنياء لم يقيموا علاقات مع السلطة السياسية، وضحّوا وتمّت محاربتهم وفي النهاية خسروا مثل فندق السان جورج، وهناك أغنياء تربطهم مصالح مشتركة مع السلطة السياسية سمحت لهم بالتنعّم بالكثير من الامتيازات وجني الأرباح واغتصاب حقوق الدولة والمواطنين وعلى هؤلاء أن يدفعوا ما تهرّبوا من دفعه سابقاً مثل شركة سوليدير المعفية من الضرائب بقانون.


يفترض رؤية مكامن الفساد، وأسباب غياب القضاء وضياع الحقوق قبل أي شيء آخر. وهو ما يتطلّب تغيير الكثير من المسلمات التي رست عليها الممارسة السياسية والاقتصادية في البلاد منذ نحو ثلاثة عقود.
هناك ضرورة لإبعاد أصحاب المصالح الاقتصادية ورأس المال عن سدّة البرلمان والحكومة، والتخفيف من تأثيراتهم على عملية صنع القرار في البلاد، لأنهم في الواقع لا يشرّعون إلّا القوانين التي تصبّ في مصلحتهم. وهذا امتياز يتفوّقون به على باقي المجتمع ويفترض انتزاعه منهم. كذلك يتطلّب الإصلاح قضاءً مستقلاً وقوياً لمحاكمة السارقين والذين اغتصبوا الحقوق العامّة والخاصّة. بالإضافة إلى تكليف الأغنياء بمعدّلات ضريبية أعلى أسوة بغالبية بلدان العالم وإيقاف كلّ شكل من أشكال الإعفاءات الضريبية التي تضرّ بالاقتصاد والمجتمع وتحرم الدولة من موارد مهمّة تتيح لها تنفيذ سياسات أكثر عدالة وتخدم الجميع بالتساوي.