يقود حزب يانس فاروفاكيس «حركة الديموقراطية في أوروبا عام 2025» (DiEM25)، المؤيّد لأوروبا، إلى سجال ضمن اليسار الأوروبي، بالتوازي مع سجال ضمن يمين الوسط الذي أثاره حزب إيمانويل ماكرون En Marche (راجعوا مثلاً الردّ الأخير لآنغريت كرامب - كارينبوير). فتح فاروفاكيس السجال عبر الإشارة إلى أنه منذ ذروة الأزمة في فترة 2011 – 2012 أصبحت مقترحات إصلاح منطقة اليورو أو توسيع الاتحاد الأوروبي أقل طموحاً. وخرج فاروفاكيس من مجموعة اقتصاديين يدعمهم توماس بيكيتي، الذي أنتج مع آخرين أخيراً خطّة لفرض ضرائب تدريجية على الشركات وعلى شريحة الـ1% الأكثر ثراءً فضلاً عن ضرائب بيئية، لتكون مُكمّلة للإصلاحات المؤسّسية الهادفة إلى تعزيز الديموقراطية في الاتحاد الأوروبي.
عارض فاروفاكيس ذلك، وطرح حزبه خطّة بعنوان «صفقة خضراء جديدة»، تقضي بأن يصدر بنك الاستثمار الأوروبي سندات مشتركة بقيمة عالية، على أن يقوم البنك المركزي الأوروبي بدعمها (شرائها). ويعتبر فاروفاكيس أن الصفقة الخضراء الجديدة هي الأفضل اليوم لأوروبا، لأن الأخيرة بحاجة إلى أرصدة مالية واستثمارات حقيقية وسياسات توسّع.
في ظل هذا السجال، أظهرت حركة «السترات الصفر» أن الضعف السياسي الرئيسي في خطّة بيكيتي ورفاقه يتمثّل في عدم وجود مجال سياسي في الوقت الحالي لضرائب جديدة من أي نوع. وانتقد فاروفاكيس افتقاد الخطّة بنداً حول إعادة التوزيع بين الدول الأوروبية، متسائلاً عن سبب حاجتنا إلى المزيد من الديموقراطية في الاتحاد الأوروبي إذا كانت الضرائب ستُفرض وتنفق داخلياً.
ردّ بيكيتي ورفاقه بأن مقترحهم لا يشمل إعادة التوزيع بين الدول - على الرغم من أن واضعي الخطّة يدعمون الفكرة - لأنها لا يمكن أن تطبّق سياسياً في الوقت الحاضر. وبدلاً من ذلك تهدف خطّتهم إلى تقليص اللامساواة بين الدول، لأن يونانياً غنيّاً يجب أن يسهم في حلّ الأزمة أكثر من ألماني فقير (يشكّل ذلك إجابة جزئية عن السؤال). أمّا في ما يخصّ المسألة الحسّاسة للتمويل عبر الضرائب أو الدَّيْن، فقد دافع بيكيتي ورفاقه عن مقاربتهم الضريبية، لأن الأدوات المُقترحة للإنفاق برأيهم هي منافع عامّة يجب أن يسهم فيها الجميع.
لاحقاً، جاءت إجابات من جيمس غالبرايث وستيورت هولاند، اللذين أشارا إلى أن من المقبول على نطاق واسع أن يتمّ تمويل المشاريع، التي تتضمّن تدفّقاً إيجابياً للسيولة، عبر ديون جديدة، لا سيّما في الوضع الحالي من الطلب المُنخفض ومعدّلات الفائدة المُتراجعة. بالإضافة إلى ذلك، تتطلّب خطّة بيكيتي ورفاقه تغييرات في معاهدة الاتحاد الأوروبي، بينما إصدار بنك الاستثمار الأوروبي للسندات لن يتطلّب ذلك.

سجال على نطاق أوروبا
هذا السجال مثير للاهتمام لعدد من الأسباب؛ أوّلاً، أنه قد يشكّل أخيراً بداية سجال سياسي عام على نطاق أوروبا، على الرغم من وجود خطر واضح بأن يكون محدوداً بنخبة من المفكّرين الذين يتناقشون أساساً حول هذه المسائل في أوساطهم الأكاديمية (ربما لأننا ما زلنا نناقش الخطط الكبرى بدلاً من الإجراءات المُحدَّدة التي قد تثير اهتمام الجمهور الأوسع).
ثانياً، يسلّط ذلك أيضاً الضوء على الضعف الكبير في موقف الديموقراطيين الاشتراكيين الأوروبيين في الماضي القريب. ففي العديد من الدول، تبنّى هؤلاء شعار التنافسية، مفضّلين الاستراتيجية الأوروبية الطويلة الأجل القائمة على المنافسة السعرية (على عكس المنافسة غير السعرية)، وغالباً التقشف. وفي الوقت نفسه، يميل معظم الديموقراطيين الاشتراكيين إلى رفض التخفيضات في الإنفاق الاجتماعي، باعتباره المؤشّر الأخير على الفرق بينهم وبين المحافظين.
الضرائب أمر جيّد فهي الطريقة التي يلبّي فيها المواطنون المتحضّرون حاجاتهم الجماعية


باستثناء المدد القصيرة، لا يمكن تقليص الضرائب والمساهمات الاجتماعية بشكل يبعث على المصداقية من دون تقليص نفقات الرعاية الاجتماعية. فإذا أرادوا استعادة المصداقية والدفاع عن الإنفاق الاجتماعي، يجب على الديموقراطيين الاشتراكيين أن يحاجِجوا بإقناع لصالح ضرائب أعلى، سواء كانت دولة الرفاه تعاني من عجز هيكلي - وهو الأمر نفسه - أم حين يقترحون نفقات مُتكرِّرة جديدة. وبخلاف ذلك، يتوقّع الناخبون أن تبدأ دولة الرفاه عاجلاً أو آجلاً بتسجيل عجز مستمرّ. ولفت جوليو لوبيز جي مؤخّراً إلى أنّ الضرائب الإضافية قد تكون أيضاً أمراً لا مفرّ منه، في حال وجود مسعى نحو المزيد من إعادة التوزيع.
إذاً ثمّة وجهة نظر في اقتراح بيكيتي ورفاقه بفرض ضرائب جديدة. ومن المثير للفضول أنهم قرّروا تسليط الضوء على طبيعة المنافع العامّة في اقتراحهم، في حين أنهم كانوا قادرين على المحاججة بأن الإنفاق الحالي لا يمكن أن يموّل بشكل مُمنهج من خلال الاقتراض. (غير أن هناك ميزة تقنية مهمّة هنا، وهي أن العجوزات تكون مستدامة إلى حدّ القيمة الممنوحة للفرق بين معدّل نموّ الناتج المحلّي الإجمالي ومتوسّط سعر الفائدة على السندات السيادية - وهنا لا يكون الهدف «المسؤول» صفراً).
ولكن منذ سنوات طويلة حتّى اليوم، يناقش الأوروبيون «القاعدة الذهبية» التي تقضي بأن العجوزات، لا يمكن، ويجب أن لا تستخدم لتمويل الاستثمارات، والأخيرة هي بالضبط ما تتوقّعه خطّة فاروفاكيس (وما تتوقعه جزئياً خطّة بيكيتي ورفاقه أيضاً). ونظراً إلى أن معظم اقتصادات الدول الأوروبية تعمل الآن بأقلّ من إمكانيّاتها وفي إطار الاختلاف الأوروبي المتنامي، تبدو الاستثمارات المموّلة بالديون جزءاً من الحل، ومن الصعب ألّا نرى الجدارة القويّة لحجّة فاروفاكيس.

صعوبات في التنفيذ
تكمن الصعوبات في خطّة الصفقة الخضراء الجديدة في التنفيذ. الصعوبة الأولى هي تحديد ما يمكن اعتباره «استثماراً»، وبالتالي يمكن تمويله بطريقة مشروعة بالديون. على سبيل المثال، في ذروة الأزمة، اقترحت الحكومة الإيطالية قاعدة ذهبية تشمل «استثمارات اجتماعية»، أو على الأقل الاستثمار في «رأس المال البشري». من الواضح أن هذا من شأنه أن يلقى مقاومة من جانب الإدارات المُحافظة مالياً، وتفسيره بأنه يفتح الطريق أمام التمويل المُمنهج بالديون لدولة الرفاه. يضاف إلى ذلك، أن بنك الاستثمار الأوروبي نفسه قد يعارض عمليّات التوسيع الكبيرة لنطاقه، والتي، إلى أن يتمّ تحديد تدخل البنك المركزي الأوروبي بشكل أكثر وضوحاً، يمكن أن يعرّض تصنيفه «الثمين» (عند AAA) للخطر.
سيكون تعميق ديموقراطية الاتحاد الأوروبي جزءاً كبيراً من حلّ هذه القضايا. وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن تكون صعوبات التنفيذ حاسمة عندما يعتمد مستقبل الاتحاد الأوروبي بشكل واضح على الإصلاحات العميقة والجذرية، وعلى الاستثمارات الأساسية في المناطق المنكوبة.
ما نحتاج إليه هو تكامل بين الخطّتين. دعونا لا ننسى أن رأس المال العام (الاستثمارات السابقة) يتطلّب صيانة، وأن العديد من النفقات الحالية الأخرى تحمل القيمة ذاتها (التعليم، الصحّة، الرعاية الطويلة الأجل وما إلى ذلك)، وهذه أمور لا يمكن تمويلها بشكل مُمنهج عبر الديون. وكما أوضح الراحل بادوا شيوبّا، ينبغي على اليسار التأكيد بشكل أكثر صراحة أن الضرائب أمر جيّد: فهي الطريقة التي يلبّي فيها المواطنون المتحضّرون حاجاتهم الجماعية. ومثلما كان من الخطأ في ذلك الوقت بالنسبة إلى الديموقراطيين الاجتماعيين اللحاق بركب التقشّف، سيكون من الخطأ الآن التفكير في أننا يمكن أن نكتفي بالاستثمارات وحدها.

Social Europe
ترجمة لمياء الساحلي

كارلو ديبوليتي: أستاذ مساعد في الاقتصاد بجامعة «سابيينزا» في روما، حيث يشغل موقع منسّق مختبر «مينيرفا» للمساواة بين الجنسين والتنوّع. وهو رئيس تحرير مجلّة PSL Quarterly Review.