في لقاء مع تجمّع رجال الأعمال، يوم الأربعاء الماضي، جدّد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة تطميناته إلى «أن الليرة اللبنانية مستقرّة، وسعرها ثابت تجاه الدولار الأميركي وسائر العملات الأجنبية». لكنه أشار بوضوح إلى أن هناك كلفة إضافية يترتّب تسديدها، إذ إن «البنك المركزي يحاول أن يستقطب الأموال لمصلحة لبنان وقطاعه المصرفي، لذا نتجه نحو سياسة الفوائد الواقعية»، أي مواصلة رفع أسعار الفائدة الاسمية إلى مستوياتها الفعلية الرائجة في السوق (قياساً إلى العائد الفعلي على سعر سندات الدين بالدولار اليوم والعائد الفعلي على توظيفات المصارف لدى مصرف لبنان وبرامج الإيداع لدى المصارف المرتبطة بها وهامش دعم الفوائد الذي يقدّمه مصرف لبنان)، وكذلك رفع أسعار الفائدة الرائجة إلى مستويات أعلى في ضوء الحاجة إلى استقطاب المزيد من الدولارات من الخارج، مع تنامي العجز في ميزان المدفوعات الخارجية منذ عام 2011، وفشل جميع الإجراءات النقدية المتّخذة حتى الآن في تصحيح وضعيته، ما عدا في عام 2016.
اعتبر سلامة أن «الفوائد المرتفعة راهناً في لبنان تؤدّي إلى كلفة أخفّ على الاقتصاد، باعتبار أن هدفنا الأساسي يكمن بعدم تهريب الأموال إلى الخارج. فاقتصاد لبنان مدولر، ونحن محكومون بالسياسة النقدية التي ترفع الفوائد بغية استقطاب الأموال. فليس لدينا صادرات (قوية) ونحتاج إلى سنوات بغية تفعيلها». يدعم الكثير من الاقتصاديين هذا الرأي، وكذلك المؤسّسات المالية الدولية، إلّا أنه يشكّل تحوّلاً كبيراً في رأي مصرف لبنان نفسه، الذي كان يبرّر لجوءه إلى الهندسة المالية الضخمة في عام 2016، بحجمها وكلفتها والأرباح التي حقّقتها المصارف وكبار مودعيها منها، بأنه يجنّب الاقتصاد اللبناني والمالية العامّة والسياسة النقدية الكلفة الأكبر المترتبة على رفع أسعار الفائدة. لا بل إن مصرف لبنان نفسه سارع في السنوات الماضية الى دعم أسعار الفائدة على التسليفات لتوسيع الكتلة النقدية، ثمّ عاد إلى دعم أسعار الفائدة على الودائع لإعادة امتصاص السيولة! وكل ذلك، بذريعة تفادي رفع أسعار الفائدة الاسمية، المرتبطة أساساً بأسعار الفائدة على سندات دين الحكومة اللبنانية (سندات الخزينة بالليرة وبالدولار).
يمهّد سلامة للحفلة الجنونية المُقبلة لرفع أسعار الفائدة الاسمية على الدين العام بأن «الفوائد المرتفعة راهناً في لبنان لا تزال نسبياً أقلّ من مصر وتركيا. فالفوائد عموماً يجب أن تواكب السوق». ولأنه يدرك مساوئ هذا التوجّه على الاقتصاد، يحاول التطمين إلى أنه «إذا تألّفت الحكومة في لبنان في القريب العاجل فسنلاحظ حتماً تراجع الفوائد، وتالياً سيكبر حجم الاقتصاد، وتحصل عمليات تسليف جديدة مبنية على السوق المرتاحة». بمعنى، أن علينا أن نتحمّل كلفة زيادة مدفوعات الفائدة وكلفة الركود الاقتصادي الذي يصيبنا في الفترة التي تسبق نشوء ظروف جديدة تسمح بإعادة تنشيط التسليف وتكبير الاقتصاد، وبالتالي تخفيض أسعار الفائدة مجدّداً. وهنا تكمن المسالة كلّها أصلاً. ففي هذه الفترة تحديداً، التي سترتفع فيها مدفوعات الفائدة على الدين العامّ، ستنشأ الظروف المعروفة، والتي اختبرها لبنان طوال ربع القرن الماضي، حيث يؤدّي ارتفاع سعر الفائدة إلى زيادة الاختلالات في بنية الاقتصاد اللبناني، وتعويق نموّه وزيادة إنتاجيته، وزيادة الفروقات في توزيع الدخل، وفي الوقت نفسه، يؤدّي إلى زيادة العجز في الموازنة، وبالتالي زيادة حجم الدين العام، وتخصيص المزيد من الموارد لتسديد مدفوعات الفائدة.

كم سيكلّفنا رفع أسعار الفائدة على الدين العامّ؟ بمساعدة خبراء في هذا المجال، قمنا بإعداد نموذج حسابي لتطوّر الدين العام وخدمته بالاستناد إلى إحصاءات الدين الحكومي القائم وخدمته الجارية في عام 2018. واعتمدنا على سيناريو أساسي مبني على متوسّط أسعار الفائدة الرائجة حالياً، وأعددنا 3 سيناريوات مكمّلة مبنية على احتمالات رفع أسعار الفائدة بمعدّلات معتدلة ووسطية ومرتفعة. طبعاً، من دون الأخذ بأي إجراءات يمكن أن ترافق رفع أسعار الفائدة على صعيد زيادة إيرادات الدولة وتخفيض إنفاقها ودينها العام (أصلاً وفوائد). وبالاستناد إلى تقديرات للعجز في السنوات المقبلة لا يتجاوز قيمة خدمة الدين، بالإضافة إلى توقّعات بنمو اقتصادي بنسبة 2.5% سنوياً.

(1) تطوّر مدفوعات الفائدة على الدين العامّ

تبلغ مدفوعات الفائدة على الدين العام في هذا العام نحو 8273 مليار ليرة (5.5 مليارات دولار تقريبا)، على أساس متوسّط سعر اسمي للفائدة يبلغ 8.2% على سندات اليوروبوندز و8.7% على سندات الخزينة بالليرة. وفي حال بقيت أسعار الفائدة مستقرّة، سترتفع مدفوعات الفائدة تدريجاً لتبلغ 16 مليار ليرة في عام 2025، بزيادة 7750 مليار ليرة (5.1 مليار دولار) في 7 سنوات، أو 1100 مليار كمتوسّط سنوي. ولكن وفق السيناريو الأوّل، أي ارتفاع السعر الاسمي للفائدة إلى 9.2% على سندات الدين بالدولار و10.7% على سندات الدين بالليرة، وهو المرجّح حالياً، فإن قيمة مدفوعات الفائدة سترتفع أكثر من 1000 مليار ليرة في العام المقبل وحده، وستواصل ارتفاعها لتبلغ 19400 مليار (12.9 مليار دولار) في عام 2025، بزيادة 11100 مليار ليرة (7.4 مليارات دولار)، أو 1600 مليار ليرة كمتوسّط سنوي. أمّا في السيناريو الثاني، أي ارتفاع السعر الاسمي للفائدة إلى 10.2% على الدولار و12.7% على الليرة، فسترتفع خدمة الدين العام 1600 مليار ليرة في العام المقبل، وستبلغ 23200 مليار ليرة في عام 2025، بزيادة تراكمية تصل إلى 15000 مليار ليرة في سبع سنوات، أو أكثر من 2100 مليار ليرة كتوسّط سنوي. أمّا وفق السيناريو الثالث، اي رفع الفائدة إلى ما بين 11.2% على الدولار و14.7% على الليرة، فإن خدمة الدين العام سترتفع في العام المقبل إلى 10100 مليار ليرة، وستواصل ارتفاعها لتبلغ نحو 27500 مليار ليرة، أي ما يعادل 18.2 مليار دولار.

(2) تطوّر مدفوعات الفائدة كنسبة من إيرادات الموازنة العامّة

تستنزف مدفوعات الفائدة في هذا العام نحو 47% من مجمل إيرادات الموازنة، ووفق السيناريو الأساسي، أي من دون أي خطّة لتخفيضها، ستبلغ هذه النسبة مستويات خطيرة تبلغ أكثر من 76% من الإيرادات في عام 2025، أي أنها ستعود إلى مستوياتها في التسعينيات. هذا المؤشّر سيتّخذ منحى أكثر خطورة وفق السيناريوات الثلاثة لاحتمالات رفع أسعار الفائدة الاسمية، إذ ستستنزف خدمة الدين العام كلّ الإيرادات بعد سبع سنوات، وقد تصل إلى أكثر من 131%، وفق السيناريو المتطرّف.

(3) تطوّر مدفوعات الفائدة على الدين العام كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي

تشكّل خدمة الدين العامّ في العام الجاري نحو 9.86% من الناتج المحلّي الإجمالي، وفي ضوء السيناريوات الثلاثة لارتفاع أسعار الفائدة الاسمية، فإن هذه النسبة ستحلّق باطراد لتبلغ 16% في عام 2025، وفق السيناريو الأساسي، وصولاً إلى 27.6%، وفق السيناريو الثالث.

(4) تطوّر الدين العام كنسبة من الناتج المحلّي الإجمالي

ارتفاع خدمة الدين العامّ بهذه الوتيرة ينعكس زيادة مطردة في الدين العام، ففي حين تبلغ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلّي الإجمالي نحو 153% حالياً، فإنها مرجّحة للارتفاع إلى أكثر من 215% وفق السيناريو الأساسي، وصولاً الى 256% وفق السيناريو المبني على رفع كبير لأسعار الفائدة الاسمية.