عدد سكان لبنان هو 4.5 مليون مواطن، ممكن أن ينشط منهم 1.2 مليون مواطن لبناني في سوق العمل، الباقي هم أطفال، وطلاب، وعجزة، وسيّدات منازل، وغيرهم ممّن لا يسعون لعمل. ما يعني أن الاقتصاد الوطني يعتمد على إنتاجية 1.2 مليون شخص (يمثّلون القوى العاملة اللبنانية من دون العمالة الوافدة واللاجئين) للنمو والازدهار والإنتاج. تُسيطر أحزاب السلطة على سوق العمل وأرزاق الناس لتضمن استمرار سلطتها السياسية. وسنبرهن ذلك بالأرقام.
من أصل الـ1.2 مليون لبناني الجاهزين لسوق العمل، يوجد منهم في المهجر ما يقدّر بنحو 300 ألف، طبعاً أكثرهم من حمَلة الشهادات الجامعية. أي إن اللبنانيين الموجودين في لبنان، الناشطين اقتصادياً، هم حوالى 900 ألف مواطن. من ضمن هؤلاء، يضمّ القطاع العامّ نحو 310 آلاف مقسّمين تقريباً كالتالي (110 آلاف في القوى المُسلّحة المختلفة، 100 ألف في التعليم، 100 ألف في الوزارات ومجلس النواب والبلديات وغيرها من إدارات الدولة)، يضاف إليهم نحو 60 ألفاً من المتقاعدين من القطاع العامّ. تشكّل الدولة ثلث اليد العاملة في لبنان، نسبة قريبة جدّاً إلى الدولة الاشتراكية الموجّهة مركزياً! بينما في دول الاقتصاد الحرّ، فالنسبة قد لا تتخطّى الـ10% من مجمل اليد العاملة. هذه نقطة الارتكاز الأولى لأحزاب السلطة في سيطرتها على سوق العمل، وبالتالي على التحكّم بأرزاق الناس.
نقطة الارتكاز الثانية لنظام سيطرة أحزاب السلطة، تؤثّر في الثلث الثاني من الوظائف في سوق العمل اللبناني. هناك عدد كبير من الشركات، التي تُسيطر عليها أحزاب السلطة بشكل مباشر، كالشركات التي تملكها الدولة، ولكنها بإدارة هيئات مستقلّة أو شركات شبه خاصّة، وهي كثيرة (مثلاً أوجيرو، وكهرباء لبنان، ومؤسسات المياه، وإهراءات القمح، والريجي، وشركة طيران الشرق الأوسط، وكازينو لبنان، وشركة ألفا، وشركة تاتش، وغيرها...)، وكذلك الشركات التي تنشط بسبب علاقاتها السياسية أو وجود أحزاب السلطة في مجالس إدارتها أو كمساهمة أساسية فيها. هذا الصنف من الشركات يقدّم خدمات للأحزاب من توظيف وتبرّعات ورعاية نشاطات ودعم مالي خلال الانتخابات وغيرها من حاجات أحزاب السلطة. مثال على هذه الشركات، المقاولون الذين يحظون بعقود من مجلس الإنماء والإعمار، أو شركات إدارة النفايات الصلبة، أو المقالع والكسارات، وتاكسي المطار، ومعامل الإسمنت، وشركات إدارة المرافق العامة مثل المطار والمرفأ والمنطقة الحرّة، ومقدّمو الخدمات لشركات الاتصالات والكهرباء، وشركات الطباعة المتخصّصة بعقود الدولة، وغيرها. ومعظم هذه الشركات من دون عقود الدولة التي يؤمّنها الشريك الحزبي ويضمن لها كوتا من عقود الدولة، ينتهي عملها بالكامل وتغلق أبوابها وتسرّح عمالها، فهي شركات مُصطنعة مهمّتها تنفيذ العقود التي يحوز عليها الحزب من حصّته في الدولة.
أما الثلث الأخير من سوق العمل فهو المستقلّ عن الدولة بالكامل، والذي يعمل جاهداً للبقاء بعيداً من السياسة والأحزاب. فلا يحاول الحصول على عقود من الدولة، وفي معظم الأحيان، يتجنّب أيّ نشاط اقتصادي تسيطر عليه الأحزاب والدولة. هؤلاء من «لا واسطة» لديهم، ويدفعون الضرائب، وتدقّق في عملهم وزارة المالية، وتطالبهم مؤسّسات الدولة بالتسديد بشكل مستمرّ، ولا يستفيدون من تغطية سياسية أو عقود مُضخمّة تكون الربحية فيها مضمونة.
مع غرق الدولة في المديونية، وضعف الاقتصاد الوطني، لم يعد النظام الاقتصادي الزبائني التي بنته ميليشيات الحرب قادراً على الاستمرار. وبدأت الدول المانحة والمؤسّسات الدولية تطالب لبنان بمحاربة الفساد، وكشف المفسدين، وتعمد الدول إلى تنفيذ مشاريع من خلال جمعيات وهيئات مستقلّة بدل مؤسّسات الدولة. وتطالب تلك الجهات بقوانين مثل «حق الحصول على المعلومات» وقانون «حماية كاشفي الفساد» وقانون «الشراكة ما بين القطاعين العامّ والخاصّ» والتي أُقرّت كلّها في الفترة الأخيرة. والآتي هو العمل على تحرير قطاعات من سيطرة أحزاب السلطة والعمل على التخلّص من التُخمة الهائلة من الموظّفين في القطاع العامّ.
تحرير سوق العمل من سيطرة أحزاب السلطة، هو خطوة أساسية لضمان النمو الاقتصادي، وتطوّر القطاعات الاقتصادية المُنتجة، والإنتاجية للموظّفين، والتنافسية في شتّى القطاعات. وهذه نتائج حتمية في حال تمّ اعتماد الاستراتيجية التالية:
(1) الشفافية في التعاقد مع الدولة، بما يمنح فرصاً حقيقية للشركات الكفوءة على حساب الواسطة، ويفرض مناقصات شفّافة وتدقيقاً مستقلّاً في الشركات الخاصّة.
(2) فصل كامل، وحماية الشركات المملوكة من الدولة من التدخّل السياسي، عبر شراكة مع القطاع الخاصّ، أو خصخصة بعض المؤسّسات، ووضع أسس تدقيق ونشر شفّافة للنشاط الاقتصادي، ومجالس إدارة مستقلّة وهيئات رقابية غير خاضعة لسلطة وزير أو سياسي.
(3) إعادة توزيع الوظائف في القطاع العامّ بشكل يخفّض عدد الموظّفين حيث توجد تُخمة، وإعادة توزيع المهام حيث الحاجة من الموجودين ضمن الملاك، وتدريب وإعادة تأهيل موظّفين لتخفيف عدد المتعاقدين مع الدولة، أو حتّى منح تقاعد مبكر مع حوافز.
(4) فكّ احتكارات الدولة لقطاعات كاملة مثل الاتصالات والطيران، وتأليف هيئات مستقلّة تشرف على منح رخص وتصاريح وفق معايير شفّافة وواضحة، من دون حصص حزبية وطائفية بما يحرّر السوق ويزيد من نسبة المستثمرين.
تحقيق تلك الاستراتيجية، يتطلّب إرادة سياسية واعية لأهمّية تفعيل الاقتصاد، وإطلاق الإمكانات الكاملة لـ1.2 مليون لبناني قادرين على العمل وساعين لتطوير حياتهم، وبالتالي الاقتصاد الوطني. إذا لم نحرّر أرزاق الناس والقطاعات الاقتصادية من الميليشات التي تُسيطر على الحكم وتمنح كلّ العقود للمافيات المتعاقدة معها، فلا يمكن أن نخفّف البطالة ونخلق فرص عمل ونزدهر اقتصادياً. بداية الحلّ هي في مواجهة السلطة ووضع حدّ لقدرتها على استباحة المال العامّ وأخذ المواطنين وأرزاقهم رهائن لدى الأحزاب.

* رجل أعمال، ناشط في المجتمع المدني