محاولة فهم «التيار الصدري»، وزعيمه مقتدى الصدر، تقع ما بين عاملين بارزين: التاريخي والاجتماعي. لكن التقاط لحظة مميزة يمكن على أساسها التوصل إلى تشخيص مستقرّ لوجود هذا «التيار» يظلّ عصياً، لغياب صفة الثبات عن مواقفه. الواقعة التاريخية التي صاغته، هي بروز مرجعية الصدر الأب: محمد محمد صادق الصدر في الفترة الواقعة ما بين عامَي 1995 و1999، والذي تبعه التحاق جمهور واسع من فئات اجتماعية تعاني أهوال الحصار الاقتصادي، وحرمان فرص المشاركة السياسية في إدارة البلاد، بالحركة الوليدة. التشابك بين العاملين أتاح للصدر الأب أن يصبح لاعباً فاعلاً في العراق، ومنتجاً لمستوى معيّن من التعبئة الاجتماعية، لكنه لم يسعفه في حسم رؤيته السياسية، وما يريد تحقيقه من أهداف.
برزت مرجعية محمد محمد صادق الصدر في الفترة الواقعة ما بين عامَي 1995 و1999 (عن والويب)

وعلى رغم محاولته تبنّي نموذج متمايز من أطروحة «ولاية الفقيه»، إلا أن ذلك لم يحجب التزاحم مع النموذج القائم في الجمهورية الإسلامية في إيران. هكذا، لم تستطع الحركة الصدرية اكتساب خصوصية سياسية، مع أنها حقّقت حضوراً اجتماعياً. أيضاً، لم تنسجم حركة الصدر الأب مع المرجعيات الدينية التقليدية، ما أفقدها القدرة على ترسيخ نفسها داخل «الحوزة» مرجعَ تقليد، لتستعيض عن هذا الغياب بحضور اجتماعي وتعبوي طاغٍ بين الجماهير، ولتبرز معها ظاهرة مختلفة في سياق بروز المرجعيات، ألا وهي قوة الأتباع والموالين، كعامل في كسب وجود فعّال داخل المؤسسة الدينية، لا العكس.

ما بين الأب والابن
برز مقتدى الصدر عقب غزو الاحتلال الأميركي وحلفائه العراق، وتحديداً في حزيران/ يونيو 2003، كشخصية رافضة للنظام الذي أُريد تركيبه إثر سقوط الدولة «البعثية». لكن هذا الظهور، الذي بدت فيه واضحةً سمةُ «الوراثة»، حمل لصاحبه مشاكل وتحدّيات؛ إذ كان عليه تحديد طبيعة العلاقة مع المرجعيات الحاضرة بثقلها الديني والرمزي والاجتماعي، إضافة إلى بقية الأحزاب التي تشبه حركته في الشكل والمضمون. على مستوى المرجعيات الدينية، كان للصدر وتياره تباين ملحوظ معها. هو ورث عن أبيه الحساسية تجاهها، وخصوصاً مرجعية محمد سعيد الحكيم، علماً أن هذه الحساسية ليست إلا ترجمة لظاهرة تنافس البيوتات الدينية. أما العلاقة مع «المرجعية الدينية العليا» (آية الله علي السيستاني)، التي كانت محكومة قبل عام 2003 بتقابل مرجعيتَي السيستاني والصدر الأب، مع ما رافق ذلك من احتكاكات وصلت إلى حدّ سعي الأخير إلى إزاحة الأول من سدّة «المرجعية»، انتقلت بعد العام المذكور إلى طور مختلف، حيث طرفا العلاقة هما «المرجع الأعلى» ورجل دين يقود تياراً سياسياً. تبدّلٌ حاول الصدر الابن استثماره في مشروعه السياسي، خصوصاً بعد عام 2014، حيث بدأ تسريب أنباء عن لقاءات جمعت محمد رضا السيستاني (نجل المرجع) بالزعيم الشاب، الذي بات واضحاً أن وراثته لوالده انحصرت في مجال الزعامة فقط، ولم تتعدّه إلى مستوى المرجعية.
في ما يتصل بالعلاقات مع التيارات السياسية، فهي مرّت بمنحنيات متعددة. نموذج منها العلاقة بـ«المجلس الأعلى الإسلامي» (بزعامة عبد العزيز الحكيم حينها)، التي وصلت عام 2009 إلى حدّ الصراع المسلح، الذي تتعدّد جذوره الدينية والاجتماعية. أما «حزب الدعوة الإسلامية»، فتحولت العلاقة معه إلى صراع شخصي بين الصدر والأمين العام لـ«الدعوة» نوري المالكي، بعد سلسلة حوادث «مريرة» كانت أبرزها «صولة الفرسان» (آذار/ مارس 2008، مدينة البصرة). تبقى أكثر العلاقات حساسية تلك التي تربطه بالفصائل المسلحة، التي خرج غالبيتها من رحم «جيش المهدي» بعد انشقاقات عام 2006.
* باحث عراقي في مجال الأنتروبولوجيا


عن الصدرين الأول والثاني
يُرجع الشاعر والباحث العراقي، محمد مظلوم، أصل «التيار الصدري» إلى مرجعية محمد باقر الصدر، «الشهيد الأول»، وتحديداً إلى مطلع ستينيات القرن الماضي، مع تصاعد نشاطه السياسي، وما تلته من تداعيات تُوّجت نهاية السبعينيات في «مدينة الثورة» (المعروفة حالياً بمدينة الصدر، شرقي محافظة بغداد) بتظاهرة جوبهت بالرصاص الحيّ بعد انطلاقها لعشرات الأمتار. لكن، على رغم أن الصدر الأول يُعدّ الأب الروحي للإسلام السياسي الشيعي المعاصر في العراق، إلا أنه ما من رابط واقعاً بينه وبين «التيّار الصدري» المعروف اليوم، الذي يمكن القول إن نواته الأولى إنما شكّلها مقلّدو محمد محمد صادق الصدر، «الصدر الثاني»، الذين كان لهم حضور داخل العراق قبل مقتل مرجعهم (1999)، ثم خارجه بعد ذلك. كان الصدر الأول أستاذاً للصدر الثاني، لكن لم تتعدّ العلاقة حدود القرابة والتلمذة. فلكل منهما توجهه السياسي، ورؤيته الخاصة؛ إذ كان الثاني متمرّداً على الحوزة الكلاسيكية، مهاجماً لها في موارد كثيرة. رأى نفسه رأساً مقابل رؤوس الحوزات الأخرى، سواءً في العراق أو في إيران. كذلك فإنه انفتح على شرائح المجتمع كافة، فالتفّ حوله الفقراء وأبناء الطبقات الدنيا، فضلاً عن المهمشين والأقليات كالصابئة والمسيحيين والغجر. الصدر الثاني شخصية ذات طبائع غير مألوفة في تاريخ «الحوزة» النجفية، والتيار الذي خرج من رحم مرجعيّته غير مألوف كذلك. اختلافٌ تباينت في شأنه الآراء، ووصلت إلى حدّ اتهام البعض له بالارتباط بنظام صدام حسين.