معظم الدبلوماسيين الأميركيين الذين عملوا في السفارة الأميركية في دمشق، أكانوا سفراء أم قائمين بالأعمال أم مجرّد ملحقين دبلوماسيين واقتصاديين وعسكريين، قضوا أوقاتهم في البحث عن أيّ معلومة قد تفيدهم لتكوين فكرة كافية عن الوزن الشعبي الحقيقي والفعلي لجماعة «الإخوان المسلمين» على الأراضي السورية. كان لا بدّ لهم من جمع ما تيسّر من معلومات، بما أنّه، على الأقل وفق ما تظهره البرقيات، التي حصلت عليها «الأخبار» من «ويكيليكس» حتى الآن، لم يلتقِ مسؤولو السفارة الأميركية أيّ قيادي من «الإخوان»، على الأراضي السورية على الأقل.
ولم تفوّت السفارة الأميركية أي وسيلة لجمع المعلومات عن «الإخوان» من أي مصدر معلومات متاح، وإذ بالسفارة في دمشق تخصّص، بين عامي 1985 و2010، العشرات من الوثائق التي لم تخلص إلى نتيجة واحدة مؤكدة، بحيث راوحت آراء مصادر السفارة بين من رأى أنّ «الإخوان» يجسّدون طيفاً أقلوياً من الشارع السوري السنّي، ومَن، بخلاف ذلك، رأى أنّ وضعهم قوي شعبياً، وخصوصاً بعدما ألّفوا «جبهة الخلاص الوطني» مع النائب السابق للرئيس السوري، عبد الحليم خدّام، «القادر على استمالة ولاء جزء من علويّي سوريا»، على حد تعبير بعض مصادر السفارة.
وفي شهر شباط من عام 2006، خصّصت السفارة الأميركية برقيّتين تقويميّتين كبيرتين لقوة الإخوان، تحت عنوان «الإخوان المسلمون في سوريا: هل يمكنهم الفوز في انتخابات؟». وفي إحداهما [06DAMASCUS517]، يشير كاتب الوثيقة، القائم بأعمال السفارة في حينها، ستيفن سيش، إلى أنّ «تقدير السفارة يفيد بأن التأثير السياسي لإخوان سوريا مبالَغ به»، لأسباب عديدة، بينها وجود فئة سورية واسعة ترفض أي هيمنة إسلامية، وثانياً بسبب تدمير النظام السوري الحركة ومواصلة قمعها على نحو مطلق داخل سوريا، والتشدُّد في مسألة نفي قادة الجماعة في الخارج بطريقة يستحيل معها تماماً أيّ احتمال لإعادة بناء صفوفها في الداخل السوري. وبحسب محاوري السفارة، فإنّ السؤال عن قوة «الإخوان» في الشارع السوري يعتمد على معيار رئيسي: هل نتحدث عن القوة الانتخابية المقصودة في ظروف ديموقراطية حرة ونزيهة، أم في ظل النظام الحالي؟ من هنا، توضح خلاصة السفارة أنه في انتخابات عادلة وحرة، ستؤدي أطراف من الإسلام السياسي السوري دوراً أساسياً لا شك فيه في الحياة السياسية، «مع أن قدرة الإخوان المسلمين على إعادة تنظيم أنفسهم لتأدية هذا الدور أمر مشكوك فيه، نظراً إلى ظروفهم الحالية». أما إذا كان التقدير يدور حول قوة الإخوان في ظل النظام البعثي الحالي إذا رغب في الإيحاء بأنه يودّ تنظيم انتخابات حرة، فإنّ الخلاصة التي تخرج بها السفارة تقول إنّ الوضع قد يكون مشابهاً لأمر الإخوان المسلمين في مصر (قبل انهيار نظام حسني مبارك)، من ناحية إظهار قادة الإخوان كإسلاميين متطرّفين، إلا أنّ عدداًَ من مصادر السفارة لفت إلى أنه إذا سقط نظام بشار الأسد على نحو مفاجئ نتيجة تدخل خارجي، فإنّ هذا قد يزيل قيوداً طبيعية كانت تعيق انبعاث الإخوان، وهو ما قد ينتج منه صعود مفاجئ لهم كقوة إسلامية راديكالية من شأنها السيطرة على المساجد والمؤسسات الإسلامية الأخرى الموجودة في سوريا.

انتهازيّون غير جديرين بالثقة

ويجزم تقدير السفارة الأميركية لوضع الإخوان، بأن قوتهم الحالية (في 2006) هي لا شيء، نظراً إلى تدميرهم الكلي في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. وتكشف البرقية أنّ هناك شبكة من المؤسسات والشخصيات الإسلامية المنافسة للإخوان حالياً في سوريا، وهي ستعارض عودة نفوذ الإخوان، على شاكلة النائب الإسلامي المعتدل محمد حبش («رغم أنّ عدداً من هذه الشخصيات يؤيد السماح بعودة الإخوان إلى سوريا»). وترى البرقية نفسها، أنّ جهود قادة الإخوان المنفيّين لجعل مواقفهم السياسية أكثر اعتدالاً وأكثر مقبولية وأقل تهديداً بالنسبة إلى الأقليات داخل سوريا، «جعلت منهم بنظر الناس انتهازيّين وغير جديرين بالثقة، ومستعدّين لقول أيّ شيء لزيادة قوّتهم وتأثيرهم». وهنا، تشير الوثيقة إلى أن انخراطهم في «جبهة الخلاص الوطني» مع عبد الخليم خدام «عزّز هذا الانطباع الواسع النطاق إزاء انتهازيتهم».
على صعيد آخر، تشدد البرقية على جانب آخر من العقبات التي تحول دون تمكّن الإخوان من الهيمنة على الحياة السياسية السورية، وهو التقليد السوري القديم الذي يتجسد في قوة التيارات القومية، السورية أو العروبية منها، التي يعتنقها حتى شيوعيون سوريون سابقون ومسيحيون. وفي السياق، تشدّد برقية السفارة على أهمية وجود نسبة كبيرة من الأقليات الدينية والعرقية (بين مسيحيين وعلويين وأكراد ودروز) في سوريا، وهو ما يصعّب مهمة الإخوان المسلمين وآمالهم إذا قرروا الهيمنة على الحياة السياسية السورية يوماً ما.

الأصوليّون 1%

وتختلف تقديرات مصادر السفارة بشأن حجم القوة التمثيلية للإخوان؛ بعض هؤلاء يشيرون إلى أن القوة التي يتمتع بها الإسلاميون تبلغ 50 في المئة، بينما آخرون قلّلوا من النسبة. أما الثابت، فهو الانقسامات الموجودة داخل صفوف التيار الإسلامي (السني) السوري، بين معتدلين ومحافظين وأصوليين (نسبتهم 1 في المئة أو أقل من ذلك، وقلة منهم تؤيد اللجوء إلى العنف) وإسلاميين إصلاحيين وعلمانيين سنّة. غير أنّ مصادر أخرى حذّرت السفارة من أن نسبة الأصوليين أكبر من ذلك، إذ إنها في رأي البعض تبلغ نحو 10 في المئة من مجموع الإسلاميين. وفي رأي إحدى الشخصيات السورية ذات الاطّلاع الواسع على الشؤون الإسلامية السياسية في سوريا، فإنّ أي انتخابات ستسبّب انقسامات كبيرة في صفوف الإسلاميين. وتعود برقية السفارة إلى التاريخ السوري الحديث لتستبعد أيّ احتمال لنجاح إخواني كبير في أي انتخابات مستقبلية، بدليل أنه، منذ وجودهم في سوريا في عشرينيات القرن الماضي، لم يكن الإخوان يوماً ناجحين جداً في السياسة السورية، ولم يقدروا على الفوز بغالبية في أي انتخابات. ويخلص أحد محاوري المسؤولين الأميركيين إلى أن الظروف السورية لا تتشابه مع تلك الموجودة مثلاً في فلسطين، من حيث السماح بجعل المجتمع السوري أكثر راديكالية على صعيد الإسلام السياسي.
أما في البرقية الثانية المكمِّلة للأولى [06DAMASCUS531]، فينقل القائم بأعمال السفارة، ستيفن سيش، عن مصادر سفارته، بعض أسباب تضخيم قوة الإخوان في سوريا. وعلى حد تعبير البعض، فإنّ الأكيد هو أن قوة هؤلاء تراوح بين 10 في المئة و30 في المئة بأحسن الأحوال من القوة الناخبة السورية، وهو ما تعود البرقية لترى أنه رقم مضخَّم عملت الحكومة السورية على ترويجه لتخويف السوريين والعالم من خطر «الإخوان». ووفق معلومات السفارة، فإنّ «فريقاً سياسياً إسلامياً معتدلاً من خارج صفوف الإخوان المسلمين، متحالفاً مع رجال أعمال سوريين، على نحو يُجمَع فيه بين قوة المال والشارع الإسلامي، قد يتمكن من حصد نتيجة مهمة في أيّ انتخابات حرة» في سوريا. وعن «مبالغة الحكومة السورية في شأن قوة الإسلاميين المتطرفين»، ترى البرقية أنّ فرقاً إسلامية سورية تسلّحت بهدف الانضمام إلى الحركة المسلحة في العراق، مشيرةً إلى أن هؤلاء «تعرضوا العام الماضي لحملات عنفية حكومية استعراضية». ومن خلاصات تقدير الموقف الذي تقدمه السفارة، أنّ الموجة الإسلامية في سوريا لم تكن في معظمها عنفية ولا حتى أصولية، رغم أن عدد الأشخاص الذين باتوا يشاركون في صلاة الجمعة ارتفع ارتفاعاً لافتاً، وأن عدد النساء المحجبات يستمر في الارتفاع، ما يجعل الإسلام عموماً القوة الأكبر في الحياة السورية، مقارنةً بما كان عليه قبل 40 عاماً.

انتخابات حرة ستفضح ضعفهم

وفي السياق، يقول أحد النواب في مجلس الشعب السوري للسفارة الأميركية، إن القوى السياسية السورية لا تخاف الإخوان المسلمين «لأن أي انتخابات حرة ستفضح ضعفهم الحقيقي». رأي يتفق معه مصدر يساري يشير إلى أنّ الإخوان ضعفاء «وهم عاجزون عن العمل في السياسة، ويفتقدون برنامجاً سياسياً». أكثر من ذلك، فإنّ آخرين يلفتون إلى أنّ جزءاً من قوة الإخوان يعود إلى واقع أن النظام قمع ومنع جميع الأحزاب العلمانية، وكذلك جميع المنظمات الثقافية. بالتالي، فإنّ المكان الوحيد الذي يتاح للسوريين النقاش فيه هو المساجد، التي يبلغ عديدها (في 2006) عشرة آلاف، بحسب النائب السوري نفسه، «لأنني، إذا اجتمعت مع خمسة أشخاص علمانيين في منزلي الخاص، تقتحم الأجهزة الأمنية المنزل وتهدد باعتقال الموجودين». ويخلص إلى أن الإخوان المسلمين استفادوا من أن النظام السوري تساهل مع «كل ما هو إسلامي في المجتمع» (باستثناء ما يتعلق بالتنظيم السياسي للتيارات الإسلامية) واضطهد كل ما هو علماني. ويوضح النائب نفسه أنّ المبالغة في رقم الـ30 في المئة مصدرها الإعلام الحكومي والغياب القسري للقوى العلمانية. من جهة أخرى، يرى مصدر سوري آخر ذو ميول قومية عروبية، أنّه حتى لو كان لدى الإخوان قوة تقدَّر بما بين 20 و25 في المئة في سوريا، فإنّ هذه القوة ستنخفض بنسبة النصف حالما يصبح العلمانيون قادرين على المنافسة على نحو ديموقراطي.
وتعترف برقية السفارة بأنّ معظم مصادرها تتفق على أنّ نظام الأسد رعى التيارات الإسلامية داخل سوريا للإيحاء للغرب بأنهم أقوياء جداً، وبأنهم الطرف الفاعل الوحيد في البلاد، وأنه الطرف الوحيد الذي يحول دون تسلم الإسلاميين الأصوليين السلطة. حتى إنّ بعض مصادر السفارة يؤكدون أنّ الحكومة السورية ترعى بعض المنظمات الأصولية المسلحة من جهة، وتكافحها بعنف من جهة أخرى، وتشجع بعضها الآخر على جعل بعض الأئمة يبثون رسائل معيّنة في المساجد لتظهر الحكومة على أنها الجهة العلمانية المؤهلة لمواجهة الإسلاميين المحافظين.

انفتاح النظام على الإخوان

وتولي البرقية الرقم 06DAMASCUS1186 أهمية لما يكشفها لها أحد مصادرها المقربين من النظام، عن أنّ الحكومة السورية تنوي الانفتاح على الإخوان المسلمين لتحويل عنصر يمثّل تهديداً لها، إلى أداة قوة بيدها لتعزيز المشاعر المعادية للولايات المتحدة في سوريا، وذلك في عز العزلة الدولية التي فرضها الغرب، وبعض العرب على دمشق. ويؤكد المصدر أن موفدين من المراقب العام للإخوان المسلمين علي صدر الدين البيانوني، بينهم أحد أقربائه، زاروا دمشق في الفترة الماضية آتين من لندن (مقر البيانوني). واتهم المصدر نفسه، السياسة الأميركية بأنها هي من هيأ الظروف لمثل هذا الانفتاح. ورداً على أسئلة السفارة الأميركية عن الوزن الشعبي والسياسي لجماعة الإخوان، في زمن كانت فيه السفيرة الأميركية الحالية لدى لبنان مورا كونيلي، قائمة بأعمال السفارة في دمشق، يختصر أحد المعارضين عام 2008 [08DAMASCUS842