«كلّ سنة، نترجم كتباً الى اليونانية أكثر منه الى العربية، اللغة التي ينطق بها أكثر من 220 مليون شخص. وكل سنة نشاهد الجمعيات المستقلّة من أحزاب سياسية ومجموعات الأعمال الخاصة، والحركات النسوية والهيئات الأكاديمية في العالم العربي تُقمع وتُحلّ ولا نفعل شيئاً (...) ثم عندما يحين وقت التغييرهناك، تُطلق على المتظاهرين قنابل مسيّلة للدموع من صنع أميركي»!
هذه إحدى الزوايا التي شُخصت من خلالها بعض عيوب طريقة التعامل الأميركي مع العالم العربي من ضمن ملاحظات كثيرة سجّلها كتّاب وصحافيون أميركيون تشرح كيف أخطأت الولايات المتحدة بقراءة المشهد العربي منذ زمن ولماذا فوجئت بردّات فعل الشارع الأخيرة.
لعلّ صحافية الـ«واشنطن بوست» آن أبلبوم من بين القلائل الذين توقفوا عند الثغر «الصغيرة» الاجتماعية والثقافية التي شابت الأداء الاميركي في دول العالم العربي منذ عشرات السنين، واضعة هذه الثغرات الى جانب مساوئ الدعم السياسي والعسكري الاميركي للمنطقة.
أبلبوم أشارت، في مقال بعنوان «يجب أن نشجّع انتفاضة مصر»، الى الخطأ الكبير الذي ارتكبته الإدارات الأميركية المتعاقبة في تقديم الدعم العسكري وحماية الأنظمة الديكتاتورية كنظام زين العابدين بن علي وحسني مبارك وباقي الملوك العرب. رأت أن هذا التصرف من قبل الولايات المتحدة أنتج ما نراه اليوم من انتفاضة وتحرّك في الشارع العربي. وقد وصل الجهل الاميركي بالمجتمع المصري الى حدّ «أننا نجهل كلياً ما إذا كان هناك أشخاص آخرون، غير محمد البرادعي، مخوّلون لتسلّم السلطة». مقال الـ«واشنطن بوست» يختم بحماسة، كما أداء الصحيفة عموماً في مواكبتها لأحداث مصر أخيراً، بالدعوة الى «الابتسام لانتفاضة المصريين واحتضانها والشعور بالفرح لأن خلق عدم استقرار في نظام قمعي هو أمر جيّد».
قِصر نظر الإدارات الاميركية في قراءة الواقع العربي وفشلها في التعامل معه، احتل قسماً كبيراً من مقال روبرت مالي وبيتر هارلينغ (محموعة الازمات) في موقع «فورين أفيرز». وهذه المرة ذكّر الكاتبان من خلال لمحة تاريخية قصيرة، بدعسات أميركا الناقصة في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي، في مقال بعنوان «ما وراء المعتدلين والمتشددين»: فكما قلّل أوروبيو ما بعد الكولونيالية من شأن الحركات القومية في المنطقة، وكما لم تدرك الولايات المتحدة فعلياً خطر المجاهدين إلا بعد هجمات 11 أيلول 2001 وهي التي دعمتهم في السابق، وكما استدركت واشنطن متأخّرة بأن عليها الاعتراف بفكرة الدولة الفلسطينية في الوقت الذي باتت فيه فكرة الدولتين غير قابلة للتنفيذ... كذلك على الادارة الاميركية أن تتخلى اليوم عن مفهومها السياسي الخاطئ للمنطقة والذي يقسم الدول بوضوح الى معسكرين، الاول مؤلّف من المعتدلين من حلفائها والثاني من المتشددين حلفاء إيران. وهذا المفهوم لا يمتّ للواقع بصلة.
لكن ماذا عن رؤية باراك أوباما للمنطقة؟ الجواب: خاطئة، عمياء وغير منطقية أيضاً. هذا ما فسّره الكاتب ليون ويزلتيير في مجلة «نيو ريبابليك» في مقال شرّح خطاب أوباما الشهير في القاهرة عام 2009. ويزلتيير يقول إن «أجندة تقبّل الآخر» التي أطلقها أوباما جاءت لتحلّ محلّ «أجندة الحرية» التي رفعها جورج دبليو بوش. جاء أوباما، ليعيد الاعتبار الى قيم أميركا التي أفسدها سلفه ولتصحيح الصورة التي شوّهتها سياسة بوش الخارجية. كيف؟ بالانفتاح على الآخر والاعتراف بالاختلاف والتأكيد على القيم الدينية كلّها واحترام الحضارات... لكن كل ذلك لم ينجح في فهم ما تعانيه فعلياً المجتمعات العربية والشعوب، لذا بقيت تلك الأفكار مجرّد عناوين صدح بها الخطاب الرئاسي في القاهرة.
من هنا، يسأل ويزيلتيير ما جدوى الأفكار الإيجابية، اذا لم توجَّه الى الأهداف الصحيحة أي الى أوضاع المواطنين وواقعهم لا الى عواطفهم؟ ما نفع التكلّم عن السعادة أمام أناس غير سعداء؟ يلفت الكاتب إلى أن الديموقراطية كانت النقطة الخامسة في خطاب القاهرة تحت عنوان «بداية جديدة». لكن أوباما الذي تحدث طويلاً عن الطريقة الأميركية المثيرة للجدل في تسويق الديموقراطية والتي نتجت عن الصورة السيئة لحرب العراق، والرئيس الذي ختم حاسماً أنه لا يجوز أن تفرض أي دولة نظاماً على دولة اخرى، لم يأت على ذكر نظام مبارك ومساوئ حكمه. ويزلتيير يرى أن أوباما ارتكب خطأ فادحاً بربط الديموقراطية بالغزو العسكري والحديث عنها كأنها مبدأ يفرض على الشعوب مع شروط وتدخلات امبريالية. كان يجب على أوباما، حسب الكاتب، أن يأخذ طرفاً مع الشعوب ضد الأنظمة وأن يساعدهم لأنهم بحاجة للمساعدة بغض النظر عما اذا كانوا سيفرزون أنظمة معادية للولايات المتحدة أم لا. هذا الخوف من وصول أطراف جديدة الى السلطة لا يبرر أبداً حماية أنظمة قمعية وحكّام استبداديين.