انتهى حداد الجمهورية الفرنسية على ضحايا اعتداءات باريس التي هزت عاصمة النور ومعها العالم، وقد شبّهها بعضهم بـ«11 أيلول فرنسا» مقارنة بنظيرتها الأميركية. مع انتهاء الحداد الوطني وعودة الحياة بقلق إلى مدينة الحب، يتوقع أن تبدأ عملية تحديد المسؤوليات في محاولة للإجابة عن كثير من الأسئلة التي يطرحها المجتمع الفرنسي.وبرغم محاولة بعض السياسيين التريث قبل «نشر غسيل الجمهورية» إلى ما بعد الحزن، ظهرت إلى الإعلام بعض الأصوات التي تشير صراحةً إلى الأخطاء السياسية الفرنسية، بل إلى «الجبن الفرنسي»، أو «دفع ثمن الأخطاء» (بحسب تصريح نائب في البرلمان الفرنسي)، وذلك في تعاطي باريس مع الحرب في سوريا والعراق، وربط ما جرى فيها بما يجري في منطقتنا.

وإذا كانت الأسئلة التي تدور على ألسنة الناس هي: «كيف وصلنا إلى هنا؟» أو«كيف حدث ذلك؟» أو «لماذا نحن؟»، فمن المفيد التذكير بأن ما يجري كل يوم في المشرق لا يمكن أن يبقى بعيداً عن الغرب الذي يمسك بعنق هذه المنطقة منذ عقود، لكن السؤال المركزي الذي يعنينا هنا هو: «هل كان بالإمكان تجنب ذلك؟». لا بد من عرض عدد من النقاط التي تمثل جزءا من الإجابة:

حدود الحل الأمني


استطاع تنظيم «داعش» أن يضع تهديداته موضع التنفيذ محققاً بذلك إنجازاً سبق أن أعلنه مراراً حول نيته إسالة الدماء على الأراضي الفرنسية. وهذا برغم إعلان عدد من الأمنيين الفرنسيين إحباط عدة محاولات لتنفيذ عمليات إرهابية منذ حادثة «شارلي ابدو» مطلع العام الجاري، تلاها قيام الحكومة بإجراءات على الصعيد الأمني تمثلت في تعزيز القدرات الأمنية الفرنسية ( 2600 موظف أمني إضافي)، وأخرى على الصعيد التشريعي تمثلت بإقرار مشروع قانون التنصت في تموز الماضي (جرى إقرار عشرة قوانين ضد الإرهاب خلال السنوات العشر الأخيرو)، لكن «غزوة باريس» بضخامتها وتنسيقها العالي تثبت ـ أنه يستحيل إحباط كل العمليات، وأن الحل الأمني وحده ــ إذا توافرت الإرادة ــ لا يكفي أمام تنظيم غير مرئي وهلامي مثل «داعش».

المعركة الأيديولوجية


البحث الأيديولوجي هو غالباً غائب عن التحليل العام الذي يتعاطى بطبيعة الحال مع ظواهر الأحداث لا مع أسبابها، لكنه من المفيد التذكير أنه منذ أواخر الثمانينيات وبعد سقوط جدار برلين شهدت فرنسا تصاعد ظاهرة التطرف كجزء من معركة أيديولوجية معّقدة تجري على عدة مستويات: أولها المستوى الديني عبر وجود متصاعد للفكر الوهابي وانتشاره في عدد من المساجد والمكتبات المدارة من السلفيين والممولة عبرهم. المستوى الثاني يمر عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تروّج لخطاب الكراهية للآخر من جهة والتركيز على خطاب الضحية من جهة أخرى. في هذا الإطار، يمكن متابعة بعض المدونات والمواقع الإلكترونية التي يتابعها الآف المشتركين والممولة من جهات خليجية للاطلاع على الخطاب التعبوي ضد الآخر. هذا التطرف إذاً له جذوره في البعد الأيديولوجي، وغياب معالجته لن يؤدي سوى إلى تفاقمه لدى المهمشين الفرنسيين الذين يمثلون تربة خصبة للتطرف.

الخطاب الداخلي المأزوم


لقد دخل الإسلام سياسياً في صلب النقاش الداخلي وأخذ حيّزاً واسعاً من الإعلام وخصوصاً مع وصول نيكولا ساركوزي إلى الحكم، وطرح مشروع «الإسلام الفرنسي»، وتعمق خطاب «الإسلاموفوبيا»، وبدا لكثير من المسلمين الفرنسيين كتهديد لهويتهم الدينية والثقافية (مسألة نقابة العمال المسلمين، ومسألة الحجاب، والحلال... إلخ). هي قضايا لم تكن موجودة على الساحة العامة في الثمانينيات والتسعينيات مثلاً.
وإذا كان الرئيس الحالي فرانسوا هولاند أكثر حذراً في استعمال الإسلام كجزء من الخطاب السياسي الداخلي فإن صناعة «الإسلاموفوبيا» لا تزال مزدهرة بين نخبة مرتبطة بأجندات سياسية وإعلامية تحوّل الإسلام من دين له خصوصيته في الحيز الاجتماعي إلى قضية سياسية ترى في الإسلام مصدر تهديد. يضاف إلى ذلك سياسة التهميش والتمييز التي تظهر خصوصاً لدى الفرنسيين المتحدرين من أصول عربية. إن سياسة الهرب إلى الأمام المتعاقبة التي تتغاضى عن البعد الداخلي ستعزز حالة الشعور بنقص الانتماء إلى القيم الفرنسية وأولها المساواة والمواطنة.

سياسة فرنسا الدولية

سيكون موضوع السياسة الخارجية على رأس لائحة «جردة الحساب» التي ستحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية على أخطاء السياسة الدولية الفرنسية. فالتحالفات الفرنسية الإستراتيجية مع السعودية وقطر وعلاقة هذه الدول بالفكر الديني المتشدد من جهة، وبالدعم السياسي والمالي الذي توفره لـ«داعش» وأخواتها من جهة أخرى، يضع الحكومة الفرنسية في موقف يجبرها على مراجعة هذه التحالفات المبنية في الدرجة الأولى على البعد الاقتصادي والمالي في ظل غياب إستراتيجية فرنسية واضحة.
في هذا السياق، يرى الرئيس السابق لجهاز الأمن والمخابرات في الإدارة العامة للأمن الخارجي، آلان شوليه، أن «فرنسا منذ ثلاثين عاماً متحالفة مع الدول التي ترعى وتمول المشروع الارهابي»، في إشارة إلى الدولتين الخليجيتين. أيضاً يمكن الوصول إلى الاستنتاج نفسه من التحليلات السابقة لـ«غزوة باريس»، وستعود بقوة، وأبرزها حول النفاق السياسي في موضوع عدم جدية محاربة «داعش» وعدم قطع مصادر تمويلها وتحويلاتها النفطية ومدها بالسلاح من دول حليفة لفرنسا.
لم تكن اعتداءات باريس حدثاً مفاجئاً للسلطات الفرنسية وأجهزتها الأمنية التي كانت تتوقع ذلك. المفاجأة كانت في حجم المأساة التي خلّفتها، فقد فجع الموت العائلات التي راحت تبحث عن أبنائها بين الدماء. رئيس الوزارء الفرنسي أعلن توقعه لعمليات أخرى مستقبلاً. وهذا مرجّح ما دامت الأمور على حالها. لا شك أن لإرهاب «داعش» المسؤولية المباشرة، ولكن المؤكد أيضاً أن الوحش الذي تربّى في حضن من يعانيه اليوم لم يعد من الممكن السيطرة عليه.
يرى المؤرخ الفرنسي جوكس أنه كلما تماهينا مع سياسة الإمبراطورية (أميركا)، فقدنا إدراكنا لمصالحنا الوطنية. إن مصلحة فرنسا اليوم هي في أن تعيد النظر في سياساتها لتجنب اعتداءات قد تتكرر مستقبلاً.