الشيخ شفيق جرادي *إيران بلدٌ إسلاميّ يقع في هذا الشرق ويعيش كلّ قضاياه ومساراته وتحوّلاته. إلّا أنّه، ومن دون أي تكلّف، يمكن القول: إنّه بلدٌ يتفرّد عن محيطه بجملة أمور:
أ‌ ــ قوميته الخاصّة (الفارسيّة) التي افترقت فيه عن لسان المحيط من حوله، وخاصة العربيّ منه.
ب‌ ــ هويّته الشيعيّة التي افترقت فيه عن المذاهب السائدة في المحيط وهي السنّية بأغلبها.

ج ــ طبيعته المبنيّة على عناصر المفاجأة في التطورات والتحولات، وهو أمر امتاز به عن كثير من سكونيّة المحيط، حتّى اعتبره هذا المحيط أنّه بلدٌ يضمّ شعباً غامضاً.
إلّا أنّ اللافت في هذا البلد، والمفاجئ في آن، هو جمعه لأمور لا تشابه بعضها من حيث الظاهر، فبرغم القوميّة الإيرانيّة، فإنّ الإسلام يمثّل العمق الحضاريّ للأمّة الإيرانيّة، وبرغم الفارسيّة، فإنّ القضايا العربيّة والحراك الإسلاميّ العربيّ مثل: قضيّة فلسطين والاحتلال والمقاومة وحركات التحرّر والاستقلال والصحوات أو النهضات الإسلاميّة في العالم العربي تمثّل الأيديولوجيات السياسيّة لهذا البلد.
ولمّا جاءت ثورة الإمام الخميني (قده) لتبسط حكم الدولة الإسلاميّة في إيران عام 1979 تحت نظريّة سياسيّة فقهيّة هي «ولاية الفقيه» اعتقد الجميع أن هناك بداية لثيوقراطيّة دينيّة لا مكان فيها للديموقراطيّة أو حكم (الأفنديّة)؛ أي لمن هم من غير (الملالي). وصار الملّا؛ (أي عالم الدين) هو الديكتاتور الحاكم باسم الدين. وهكذا، قامت الدنيا ولم تقعد في مواجهة هذا الجانب من السيرة السياسيّة لإيران، بل لمواجهة إسلاميّة الدولة. ومع الوقت، بدأت تنجلي الظروف السياسيّة والمسار السياسيّ في إيران عن حكم تحت اسم «السيادة الشعبيّة الدينيّة»؛ وهي تعني أن إسلام ولاية الفقيه إنّما يقوم على إرادة شعبيّة تلتحم مع القيم الدينيّة في إيلاء الولي الفقيه كلّ الثقة. وهي قيم سمحت بتولّد أحزاب على غير ما هي عليه أحزاب العالم العربيّ، إذ الحزبيّة في إيران عبارة عن سلوك سياسيّ إسلاميّ، منه ما يرى أنّ صلاح الناس هو في ارتكازها على القيم الإسلاميّة الممتدّة إلى الأمّة بمصالحها الأساسيّة الداخليّة والخارجيّة، ومنها ما اعتبر أنّ المصلحة القوميّة للشعب في إيران الإسلام هي فوق كلّ اعتبار خارجيّ. ولأنّ النظرة والسلوك العام كانا أقرب إلى رؤية الوليّ الفقيه وموقفه، فقد سمّي القائلون به بالمحافظين، أما الآخرون فلقد سمّوهم بالإصلاحيين، وخاصّة أنّ بعضهم كان يعتقد أنّ المصلحة القوميّة لإيران تقتضي تحسين العلاقة مع الغرب.
لكن هذا النقاش بين إسلام المصلحة وإسلام الأيديولوجيا انقضى في بدايات عهد السيد القائد الخامنئي لمصلحة إسلام الثورة (الأيديولوجيا) البانية للدولة. وبرزت إصلاحيّة من نوع جديد تمثّل أطروحة مختلفة مفادها: وجوب الحفاظ على كلّ مقوّمات الثورة في العلاقة مع حركات المقاومة والإسلام التحرّري في العالم، وفي الوقت نفسه، التقليل من حدّة المواجهة مع الغرب في الثقافة والتنمية والسياسة، وهذا ما لم يوافق عليه السلوك المحافظ في الدولة الإسلاميّة. وقد انتهت جدليّة النزاع بين هذين التيارين إلى إيجاد ثوابت في السياسة الخارجيّة والعلاقات الدوليّة لإيران، وثابتة أنّ الملف النوويّ يمثّل وجه العزّة لإيران في التنمية ومواجهة الغرب. لذا، فمقاليد قراره الأخير إنّما تكون بيد الوليّ الفقيه... ومع نهاية عهد أحمدي نجاد، تأكّدت هذه الأمور كحقائق لا نقاش فيها... وهنا ظنّ العالم القريب والبعيد لإيران أنّ الاتجاهات المحافظة هي وحدها من بيدها الوصول إلى سدّة الحكم. وإذ بالسيادة الشعبيّة الدينيّة القائلة بالاحترام الدينيّ إلى حدّ القداسة لصناديق الاقتراع تأتي بإصلاحيّ من العيار الذي جمع خاتمي ورفسنجاني معاً على دعمه وهو «الشيخ حسن روحاني».
المفاجأة هنا تكمن في أمرين:
الأوّل: ممارسة اللعبة الديموقراطيّة بأفضل تجلّياتها في بلد ولاية الفقيه، وعند أعلى منسوب من اقتداره الداخليّ، على الأقل.
الثاني: أنّ المحافظين كانوا تجمّعاً من الأفنديّة، بينما الإصلاحيّة التي اكتسحت هي مجموعة من الملالي أمثال آية الله رفسنجاني وعلاقاته المرجعيّة، والسيد خاتمي بتعابيره الثقافيّة الجامعيّة، والشيخ حسن روحاني بخلفيته التي تمثّل الاعتدال بين كونه أمل الإصلاحيين وممثّل الإمام الخامنئي في واحدة من أهمّ المؤسسات الحاكمة في إيران.
وهذا ما يعني أنّنا أمام دولة حقيقيّة في شرق يفتقر إلى وجود دول حقيقيّة ديموقراطيّة كإيران. وهذا ما يدعونا لنثير الآتي:
أولاً: من هو الرئيس المنتخب؟
إنّه الشيخ حسن روحاني المولود عام 1948 من أسرة متديّنة تقليديّة معروفة بمجاهدة الحكم الشاهنشاهيّ. والذي التحق في سنّ مُبكرة (12سنة) بالحوزة الإسلاميّة الدينيّة، إلى أن وصل إلى الدراسة عند أهم مراجع قم. وفي الوقت نفسه، استكمل دراساته العصريّة حتى نال الدكتوراه في القانون والسياسة من جامعة غلاسكو سنة 1999م، وهو صاحب مؤلّفات تشير إلى طبيعة اهتماماته، إذ منها: ـــ كتاب مقدّمة في تاريخ أئمة الشيعة، وكتاب دور الحوزات العلميّة في التحولات الأخلاقيّة والسياسيّة للمجتمع، وهما عنوانان يشيان برؤية تقليديّة في الاهتمامات الدينيّة والمؤسّسة الدينيّة بغية تثويرها.
ـــ مجلّدات ثلاثة في: الرؤية السياسيّة للإسلام، تتناول هذه الرؤية السياسيّة بأبعادها الاجتماعيّة وعلاقاتها الدوليّة على تنوّعها؛ ما يعني أنّ الإسلام يمثّل انطلاق نظرته للواقع السياسيّ وبتعبير رؤيوي.
ـــ كتاب أسس التوجّه السياسيّ للإمام الخميني (قده) وكتاب الثورة الإسلاميّة الجذور والتحدّيات. وهما معنيان بكشف الجذور والمنطلقات لأيديولوجيا الثورة الإسلاميّة وفق نهج الإمام الخميني (قده).
ـــ كتاب الأمن القوميّ والدبلوماسيّة النوويّة، والأمن القوميّ والاقتصاد الإيرانيّ... ما يعني أنّ هناك طموحاً استراتيجيّاً عند الباحث الرئيس.
ثمّ لا يخفى، أنّ الرجل خاض جهاداً مرّاً في ظلّ حكم الشاه، ثمّ بعد ذلك شارك في تشكيل القوّة الجويّة العسكريّة لإيران، وبعدها تنقّل في البرلمان وترأس أكثر من لجنة فيه، بل كان عضواً في مجلس الخبراء ومجلس صيانة الدستور، وصولًا إلى ترؤسه الأمن القوميّ والمحادثات الخاصة بالملف النووي... في الوقت الذي يعرف فيه المقرّبون منه أنّه إصلاحيّ على طريقة الاعتدال، وليس على طريقة مير موسوي أو خاتمي. من هنا، جاء تعبيره «إني ابنٌ لهذه الثورة، وقائدها الإمام الخامنئي».
ثانياً: موقفه من المقاومة وأحداث المنطقة.
في الوقت الذي أعتقد فيه أنّ المقاومة الإسلاميّة باتت اليوم تمثّل ضمير الشعب الإيراني بكل أطيافه، فإني أعتقد أنّ علاقة حميمة متوازنة تربط قادة المقاومة بقادة كل أطياف القيادة في إيران. بل يمكنني الجزم، بهذا الصدد، أنّ الشعار المنقول عن الإمام الخميني (قده) وهو قوله: «هدفان لا مساومة فيهما في أهداف قيام الدولة الإسلاميّة: إحياء الإسلام، وإزالة إسرائيل من الوجود»، بات هذا الشعار رائجاً وكأنه قانون لا يقبل النقاش والجدل. لذا، فلا مساس مطلقاً بالعلاقة مع المقاومة.
أمّا المنطقة وأحداثها، فقد نرى بعض الفارق في تفاصيل المقاربة، لا في أصل المقاربة. وهذا متروك للأيام.
ثالثاً: أي استراتيجيّة سيعتمد؟
من مواجهة الغرب، الى الملف الاقتصاديّ والتنمية، فالسياسة الخارجيّة والملف النووي، الحرب والسلم، تفاقم الأخطار الطائفيّة في المنطقة. وعلينا هنا التفريق بين أصل الموقف الذي هو وضع حصريّ يستند إلى مبدأ التوافق بين المرشد الأعلى وبين رئيس الجمهوريّة، وآراء المؤسّسات في إيران. أمّا طريقة التعاطي ولغتها وديناميّاتها، فبلا شك أنّ عهد نجاد ليس عهد روحاني. وقبل هذا وذاك، يمكنني القول: إنّ إيران هي ديموقراطيّة المفاجأة؛ ونحن وإن كنا نقرأ ونقرّر، إلّا أنّها ستكون دوماً واحة المفاجأة التي يصعب توقّعها، أو توقّع مساراتها المفاجئة.
* مدير معهد المعارف الحكميّة للدراسات الدينيّة والفلسفيّة