صُدم الكثير من المراقبين لدى مشاهدتهم المناظرة النهائية للانتخابات الفرنسية، التي كانت عبارة عن مواجهة استعراضية بين مرشحة حزب «الجبهة الوطنية» مارين لوبن، التي حصدت نسبة 21.3 في المئة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات، ومرشح حزب «إلى الأمام» إيمانويل ماكرون، الذي تبوأ المنصب الأول حائزاً 23.86 في المئة من الأصوات.
وقد بدا أنّ ماكرون يحتل الموقع الأقوى على الصعيد التقني، وخصوصاً لجهة إلمامه بالملفات المهمة، مرسخاً نفسه مرشح المنظومة السياسية.
كذلك، فإن ماكرون، الداخل حديثاً إلى عالم السياسة والمدير السابق لمصرف «روتشيلد آند سي» والنائب السابق للأمين العام لرئاسة الجمهورية الفرنسية ووزير الاقتصاد في حكومة فرنسوا هولاند، حتى عام 2016، يطرح نفسه كمرشح «تغييري»، مبدياً رغبته في تخطي الانقسامات التقليدية لمصلحة رؤية تقنية، يدّعي أنها «غير مؤدلجة»، للمسائل الاجتماعية والاقتصادية. ويتم تقديم ماكرون أيضاً على أنه رجل التجديد، ولا شك أنه نتاج استراتيجية توقعت انهيار الأحزاب السياسية التقليدية. فهذا المرشح لأعلى منصب في فرنسا محاطٌ ومدعومٌ من سياسيين، يساريين ويمينيين، يسعون إلى الحفاظ على النظام الاجتماعي القائم، المتمثل بالرأسمالية المتوحشة التي أفقرت عدداً هائلاً من الفرنسيين. وفي الواقع، فإن ماكرون هو مرشح يروّج له نظام عاجز عن حلّ معضلته الأساسية: فأمام أزمة الرأسمالية، التي تفقر من هم فقراء أساساً، يرى هذا النظام أنّ الحل يكمن في مزيد من الرأسمالية، عبر إلغاء المكتسبات الاجتماعية للموظفين وزيادة أرباح الشركات المتعددة الجنسيات والمجموعات المالية الكبرى.
ولدفع الفرنسيين للالتفاف حول ماكرون وبرنامجه الاقتصادي، القائم على التمسك بالاتحاد الأوروبي وتطبيق إصلاحات شديدة الليبرالية، تراهن الصحافة والشخصيات السياسية على خطاب الخير ضد الشر، علماً بأن مارين لوبن تتبنى الخطاب عينه عبر تقديم نفسها كـ«مرشحة الشعب» في مواجهة «المنافسة غير المشروعة والتطرف الإسلامي». وبالتالي، فالنتيجة هي غياب العقلانية وحلول الأخلاقيات والخطاب العاطفي مكانها. فلمواجهة «الجبهة الوطنية» الرجعية والمعادية للإسلام، يشدد فريق إيمانويل ماكرون على القيم الديموقراطية ويحذر من الفوضى التي سيسببها برنامج مارين لوبن غير الواقعي في حال فوز هذه الأخيرة.
صحيح أن «الجبهة الوطنية» كانت الحزب الناطق باسم العنصرية تاريخياً، إلا أن الحكومات المتلاحقة سارت على خطى اليمين المتطرف بدلاً من مكافحة طروحاته. وفي هذا السياق، من المفيد التذكير مثلاً بتصريحات مانويل فالس (رئيس الوزراء السابق في حكومة هولاند) الذي طالب بزيادة عدد السكان البيض في مدينة إيفري، التي كان يتبوأ فيها منصب المحافظ، لأن عدد العرب والسود كبير هناك. فهل تصبح عنصرية هذا اليسار «جديرة بالاحترام» لأنها تختبئ خلف القيم الجمهورية؟ منذ عدة سنوات وحتى الآن، لم تتردد أحزاب اليمين واليسار على حد سواء عن المزايدة على بعضها بعضاً في العنصرية والخطاب الهوياتي. فرئيس الجمهورية السابق نيكولا ساركوزي، الذي يدعم اليوم ماكرون، أنشأ عام 2007 وزارة الهجرة والاندماج والهوية الوطنية، محولاً قضية الهجرة والإسلام إلى خطر يتهدد فرنسا. أما على الصعيد العالمي، فمن الضروري التذكير بأن الماضي الاستعماري الفرنسي قد رسّخ هذه النظرة العنصرية إلى العالم، التي باتت اليوم متجذرة بعمق في المؤسسات والمجتمع الفرنسيَّين. وقد سمح هذا الجو بتطوير طروحات اليمين المتطرف التي تلقي بثقلها على الحياة السياسية الفرنسية منذ ثلاثين عاماً. وفي هذا الشأن، يذكّر الفيلسوف الفرنسي آلان باديو، في مقال حول «عنصرية المثقفين»، بأن النخب تتحمل المسؤولية الأساسية لأنها بخطابها وممارساتها جعلت من العنصرية أمراً مقبولاً. ويقول باديو إنّ «فقراء المناطق ليسوا هم من قرروا تقييد حق العامل الأساسي، مهما كانت جنسيته، في العيش هنا مع زوجته وأولاده قدر الإمكان.

تراهن الصحافة والشخصيات السياسية على خطاب الخير
ضد الشر
بل من قام بذلك هي وزيرة اشتراكية وكل اليمينيين الذين ملأوا الفراغ بعدها. ومن أعلن عام 1983 أن عمال شركة «رينو» المضربين هم «مهاجرون تحركهم مجموعات دينية وسياسية تتبع معايير لا علاقة لها بالواقع الاجتماعي الفرنسي لم تكن امرأة ريفية غير متعلمة، بل رئيس الوزراء الاشتراكي آنذاك بيار موروا».
وإذا كان اليسار المهيمن قد تبنى مسألة الهوية كقضية أساسية، فذلك للتغطية على فشل سياساته. فقد دافع هذا اليسار بشراسة عن مصالح الأغنياء وتولى تطبيق إصلاحات شديدة الليبرالية. فضلاً عن ذلك، لم يجد اليسار الفرنسي طريقة للتعامل مع التحولات الاقتصادية الكبرى وللتأقلم مع الواقع العالمي الجديد سوى عبر تطبيق سياسات نيوليبرالية متوحشة، ولكنه تمكن، بفضل شرعيته التاريخية لدى الفئات الاجتماعية الفقيرة، من فرض إجراءات لا تحظى بموافقة شعبية ولم يكن اليمين حتى قادراً على تطبيقها. وبالتالي، سعت «الجبهة الوطنية» بقيادة لوبن، مستفيدة من فشل اليسار الذي تخلى عن النضال الاجتماعي، إلى الإيحاء للفئات الشعبية الفقيرة بأنها البديل «الموثوق» الوحيد. وبالتوازي مع تشجيعها للنزعة الهوياتية، أنتجت «الجبهة الوطنية» تدريجياً خطاباً اجتماعياً قائماً على الحمائية الاقتصادية لجذب الفئات الاجتماعية التي عانت كثيراً من الآثار المدمّرة للاقتصاد الرأسمالي. وقد انعكست هذه التطورات في صناديق الاقتراع على شكل تباين طبقي واضح في الأصوات، وكشفت شرخاً متزايداً بين مراكز المدن البورجوازية، التي صوّتت بأغلبيتها لماكرون، وبين الضواحي والأرياف الفقيرة التي تزداد شعبية «الجبهة الوطنية» فيها باستمرار.
ولكن بدلاً من تناول هذا العطل البنيوي، أثبتت المناظرة النهائية للانتخابات الرئاسية الفرنسية مرة جديدة مدى انتشار خطاب الأخلاقيات الذي يحيد النقاش عن الثقافة السياسية العقلانية ويؤدي إلى قبول الإشكاليات الخاطئة من دون قيد أو شرط. لا شك أن «الجبهة الوطنية» هي الحزب الناطق باسم العنصرية، ولكنها ليست الوحيدة في ذلك، إذ إن جزءاً لا يستهان به من الطبقة السياسية الفرنسية يتبنى نظام القيم نفسه كما «الجبهة الوطنية».
ماذا تعني إذاً النداءات المطالِبة بالتصويت لإيمانويل ماكرون للوقوف في وجه المرشحة الأسوأ، مارين لوبن؟ لعلّ عالم الاقتصاد الإيطالي إيميليانو برانكاتشيو، أفضل من عبّر عن المأزق الذي يمرّ به المجتمع الفرنسي، في مقال له في الصحيفة الإلكترونية الفرنسية «ميديابار» (Médiapart)، إذ قال إنّ «أولئك اليساريين الذين يحثّون على التصويت لما يسمونه أهون الشرين لا يدركون أنه في ظلّ الظروف التي نمر بها، فإنّ أهون الشرين هو سبب وجود الشر أساساً. فليست لوبن ومناصروها سوى عوارض كارثية للمرض السياسي الذي تعانيه أوروبا، والذي يجسّده ماكرون. ومن المنافي للمنطق أن نختار أحدهما لمحاربة الآخر». وبالتالي، من المتوقع أن تحمل هذه الدينامية السياسية في طياتها بذور صراعات اجتماعية عنيفة في المستقبل. فبرنامج ماكرون يبدو كأنه الحل الأمثل لإنقاذ الرأسمالية، لأن مفاقمة الأزمة قد تؤدي إلى انهيار هذا النظام الاقتصادي الذي سينتهي عاجلاً أو آجلاً لأنه عاجز عن إيجاد حلّ لمسألة الظلم الاجتماعي. وفي الواقع، فإن هذه الأزمة السياسية، الناتجة من أزمة اقتصادية، هي في أساسها أزمة حضارية. فالأمر الذي ينبئ بنهاية حضارة ما هو عجزها عن حل المشاكل الكبرى التي تنتجها. وكأن بشكسبير يقول اليوم: «ثمّة ما هو عفنٌ في مملكة فرنسا».