دعم فرنسا لإسرائيل ونفوذ اللوبي الصهيوني الكبير على سياساتها الداخلية والخارجية ليس أمراً جديداً، لكن الارتكابات الفرنسية اللاشرعية الداعمة للكيان الصهيوني، واختراق الحكومات الفرنسية القوانين الدولية وشرعات حقوق الإنسان في سبيل هذا الدعم يبدو مدوّياً... وإلى تصاعد.
آخر تلك الارتكابات، هو ما كشفه تقرير صادر عن "رابطة حقوق الإنسان" و"الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان" و"الكونفدرالية العامة للعمل" وخمس منظمات غير حكومية أخرى، حول إسهام الدولة الفرنسية وخمس مؤسسات مالية ــ أربعة مصارف وشركة تأمين ــ في تمويل الاستيطان الإسرائيلي في فلسطين المحتلة. التقرير الذي نشر أمس، بعنوان "الصلات الخطيرة بين المصارف الفرنسية والاستيطان الإسرائيلي"، أظهر أيضاً كيف تخالف فرنسا، حكومة ومؤسسات مالية، قوانين الأمم المتحدة ومجلس الأمن وشرعات حقوق الإنسان من خلال تمويلها للاستيطان الإسرائيلي بطرق مباشرة وغير مباشرة.
المصارف الفرنسية التي بيّن التقرير امتلاكها حصصاً في مصارف ومؤسسات إسرائيلية موّلت الاستيطان، هي "سوسييتيه جينيرال" Société générale ، "بي إن پي - پاريبا" BNP-Paribas، "كريدي أغريكول" Credit agricole (بشركته الفرعية إل. سي. إل LCL) و"بي پي سي أوو" BPCE (بشركته الفرعية ناتيكسيس Natixis)، إضافة إلى شركة التأمين "أكسا" Axa. تلك المؤسسات المالية الفرنسية، كما يظهر التقرير، تتعامل من دون قيود مع خمسة مصارف إسرائيلية تؤمّن البنية التحتية المالية لمعظم النشاطات الاستيطانية الحكومية الإسرائيلية، ولمشاريع أبرز الشركات الإسرائيلية الخاصة في مجالات البناء، والكهرباء، والطاقة، والأمن، والاتصالات العاملة في المستوطنات.
لكن "الصلات الخطيرة" الفرنسية ــ الاستيطانية، لم تقتصر على علاقات مصرفية فحسب، بل تعدّتها إلى المساهمة الفرنسية المباشرة في إنماء المستوطنات وإنعاشها، إذ يظهر التقرير أن تلك المصارف الأربعة، منحت عام ٢٠١٤ "شركة كهرباء إسرائيل" قروضاً بقيمة ٢٨٨ مليون يورو حتى عام ٢٠٢٠ لتوسيع مشاريعها، والشركة التي تتعهّد بناء جزء من ذلك المشروع ليست سوى شركة "ألستوم" Alstom التي تُسهم الدولة الفرنسية فيها بنسبة ٢٠٪. اذاً، التورّط هنا يطاول المصارف الفرنسية الأربعة، بإسهامها المباشر بدعم شركة كهرباء استيطانية، وكذلك يطاول الحكومة الفرنسية المساهمة في شركة "ألستوم". علماً بأن "شركة كهرباء إسرائيل" تمدّ المستوطنات بالطاقة الكهربائية، وهي متهمة، حسب التقرير الفرنسي، "بقطع الكهرباء عمداً وبشكل كلّي عن بلدات عديدة في الضفة الغربية وعن غزة".

كشف التقرير مساهمة
الدولة الفرنسية ومؤسسات مالية في تمويل الاستيطان

تعدّ المساهمات المصرفية تلك ومساهمات الحكومة الفرنسية في مشاريع استيطانية، مخالفة للقوانين الدولية، لأن تلك القوانين وشرعات حقوق الإنسان الصادرة عن الأمم المتحدة ما زالت حتى اليوم تعتبر المستوطنات الإسرائيلية "غير شرعية"، وتدعو إلى "وقف أي أعمال أو مساهمات تؤدي إلى توسعها وانتشارها".
اللافت في الفضيحة الفرنسية الأخيرة، أن عملية دعم "شركة كهرباء إسرائيل" مالياً وعملياً، تزامنت عام ٢٠١٤ مع دعم فرنسا والدول الأوروبية الممثلة في مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة تبنّي قرار يلزم "جميع الدول بأن تحثّ الشركات التي تخضع لأحكامها وغيرها على اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن احترام حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة والقدس الشرقية، وأن تمتنع عن ارتكاب أو المساهة في ارتكاب أي اعتداء على حقوق الإنسان تجاه الفلسطينيين". وكانت فرنسا وافقت أخيراً عام ٢٠١٦، على القرار ٢٣٣٤ الصادر عن مجلس الأمن، والذي يكرّس "المستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام ٦٧ غير شرعية"، ويطالب "جميع الدول أن تفرّق في علاقاتها التبادلية بين أراضي الدولة الإسرائيلية والأراضي المحتلة منذ ٦٧".
لا يمكن الحكومة الفرنسية أن تدّعي عدم درايتها بقوانين الأمم المتحدة الموجبة، ونصوص الاتحاد الأوروبي الواضحة، بشأن المستوطنات، ولا أن تحتمي بذريعة أنها كدولة أوروبية عاجزة عن وقف تعاملها مع بعض المصارف والشركات الإسرائيلية، إذ إن دولاً أوروبية كالنروج وهولندا والدانمارك وبعض شركاتها الخاصة، أوقفت استثماراتها مع معظم المصارف والشركات الإسرائيلية المتورطة في مشاريع استيطانية، وبعضها فعل ذلك منذ عام ٢٠١٠.
التقرير، من جهته، طالب الحكومة الفرنسية "باحترام القوانين الدولية، ولا سيما تعهداتها في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان"، وبأن "تعمل على ثني الشركات في كافّة القطاعات عن الاستثمار في المستوطنات الإسرائيلية". لكن "نظراً إلى أداء باريس المعدوم في هذا المجال، يمكن المستوطنين الإسرائيليين والمتواطئين معهم من الفرنسيين أن يناموا مطمئنين"، كما علّق موقع "ميدياپار" الفرنسي الذي نشر التقرير ــ الفضيحة أمس.