لم تتعافَ القارة العجوز بعد من التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأميركي المنتَخَب دونالد ترامب لصحيفتي «ذا تايمز» البريطانية و«بيلد» الألمانية في مطلع هذا الأسبوع. ورغم أن تصريحات ترامب لم تأتِ بأي جديدٍ عملياً، إذ إنه كان قد أدلى بالمواقف نفسها خلال حملته الانتخابية مراراً، إلا أن توقيتها الآن يحمل الكثير من المعاني المضمرة ويحوّل النفور الأوروبي من ترامب إلى خشية حقيقية منه: فعلى ما يبدو، الرجل يعني ما يقوله، وما على الجميع الآن سوى انتظار خطواته المقبلة.
في أوروبا، الترقب والقلق هما سيّدا الموقف. الجميع ينتظر ليرى إذا ما سيكون ترامب الرئيس أكثر ليونة من ترامب المرشح. وريثما تتضح الصورة، يدعو قادة الاتحاد الأوروبي إلى توحيد الجبهة في وجه ترامب. لكن اللافت هو أن كلّ تصريحات ترامب تقريباً تتقاطع مع مواقف ما يسمّيه قادة الاتحاد «التيارات الشعبوية» التي يزداد زخمها يوماً بعد يوم. ففي مقابلته الأخيرة، اعتبر ترامب سياسة «الأبواب المفتوحة» التي اتبعتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تجاه اللاجئين بمثابة «كارثة»، وقال إن «الاتحاد الأوروبي أداة بيد ألمانيا»، ووصف «البريكست» بـ«الأمر العظيم»، متوقعاً أن تحذو عدة دول أوروبية أخرى حذو بريطانيا لأن شعوب أوروبا، وفقاً له، تريد «هويتها الخاصة». وإضافة إلى هذه الأزمات الأوروبية المستعرة، أضاف ترامب همّاً جديداً على كاهل قادة الاتحاد عبر تكرار موقفه من مسألة «حلف شمالي الأطلسي» ونفقاته المشتركة، قائلاً إن «الزمن عفا عليه».
السؤال الأبرز المطروح حالياً يدور حول شكل العلاقة المستقبلية بين أوروبا والولايات المتحدة. المؤكد هو أن ترامب لا يكترث لمصير الاتحاد الأوروبي، حسب قوله، لا بل هو يرى فيه منافساً تجارياً لبلاده خاضعاً لسيطرة ألمانيا.

المؤكد أن الرئيس
الأميركي العتيد لا يكترث لمصير الاتحاد الأوروبي
وبمجرد اتخاذه هذا الموقف، يكون ترامب قد تخلى عن إحدى ثوابت السياسة الخارجية الأميركية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أي التمسك بالوحدة الأوروبية وتطويرها واعتبارها عنصراً محورياً في الحفاظ على أمن ضفتي الأطلسي. ولكنّ لترامب رأياً آخر، فهو يضع الاقتصاد والدفاع والسياسة في رزمة واحدة ويعمل وفق قاعدة «إن أعجبكم ذلك فليكن، وإن لم يعجبكم فلتشربوا البحر». فانسجاماً مع هذه الرؤية، وعلى خلفية مواقفه من المكسيك والمهاجرين غير الشرعيين في الولايات المتحدة على سبيل المثال، هدد ترامب في مقابلته الأخيرة برفع معدل الضريبة على سيارات شركة «بي إم دبليو» الألمانية المستورَدة إلى الولايات المتحدة إلى 35% إثر إعلان الشركة تمسكها ببناء مصنع لها في المكسيك. ويمكن القياس على موقف ترامب هذا لأخذ فكرة عمّا سيحمله المقبل من الأيام على صعيد العلاقة بين الطرفين.
على المقلب الآخر، يرى القادة الأوروبيون في مواقف ترامب عدائية غير مبرّرة، ولعلّ أفضل تعبير عن الصدمة الأوروبية إزاء تصريحات ترامب هو في افتتاحية صحيفة «لوموند» الفرنسية الثلاثاء الماضي المعنونة «ترامب ضد أوروبا» والتي جاء فيها أن ترامب «لا يستسيغ الاتحاد الأوروبي وهو يراهن على فشله، لا بل يعبّر عن عدائيته تجاه مشروع الوحدة الأوروبية». أمّا أكثر ما يستفظعه الأوروبيون فهو مغازلة ترامب لروسيا وحديثه عن إمكانية رفع العقوبات الأميركية عنها. وفي هذا السياق، يتساءل البعض عما سيفعله الاتحاد الأوروبي إذا مضت الولايات المتحدة بالفعل نحو رفع العقوبات: هل ينقسم موقف «الغرب» فيُبقي الاتحاد الأوروبي على عقوباته ضد روسيا، بالرغم من كلفة ذلك على اقتصاد دوله الأعضاء، أم تسير الدول الأوروبية خلف أميركا وتلغي العقوبات بدورها، متغاضية عن سنوات من الخطاب المعادي لروسيا؟ في الحالتين، يواجه الاتحاد الأوروبي معضلة، وهو أمام خيارين، أحدهما يستتبع كلفة اقتصادية، والآخر كلفة سياسية ومعنوية. ولدى معاينة المسألة من هذا المنظور، يمكن فهم التهويل الأوروبي من تصريحات ترامب كمحاولة لتبرير أي خطوات مستقبلية قد يتخذها الاتحاد تجاه روسيا.
في سياق شبيه، يأتي كلام نائب المستشارة الألمانية سيغمار غابرييل، في معرض ردّه على ترامب، كتعبير آخر عن المعضلة التي يواجهها الاتحاد الأوروبي إثر تغيّر المواقف الأميركية تجاه القضايا الكبرى، إذ قال إن «السبب الحقيقي لأزمة اللاجئين في أوروبا هو تدخل الولايات المتحدة في قضايا الشرق الأوسط وآسيا الوسطى».
وقد دفع هذا الرد بالبعض إلى إثارة تساؤل جديد: لماذا لم تعارض ألمانيا ــ أقوى الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ــ تدخل واشنطن في أزمات الشرق الأوسط إذا كانت تدرك أن ذلك سيفاقم أزمة اللجوء؟ وهل سيستمر الاتحاد في ممارسة السياسة نفسها إذا قرر ترامب تغيير مسار الولايات المتحدة؟ في هاتين الحالتين أيضاً، يواجه الأوروبيون خياراً بين استمرار أزمة اللجوء أو التخلي عن مواقف سياسية التزموا بها طوال السنوات الماضية والقطع مع نمط التدخل الذي مارسوه منذ حرب أفغانستان، مروراً بالعراق، ووصولاً إلى ليبيا وسوريا. ما سبق مجرد مثال عن الخيارات الصعبة التي سيضطر الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذها عمّا قريب في عهد الرئيس ترامب، وهذا قد يفسّر بعضاً من النفور والخوف الأوروبيَّين منه.
ويبدو أن الحدث المفصلي الأهم الذي ستتبلور فيه كل هذه التطورات هو سلسلة الانتخابات التي ستشهدها ألمانيا وفرنسا وهولندا هذا العام. والسؤال الذي يؤرق بروكسل هو إذا ما كان الاتحاد الأوروبي سيخرج من العاصفة موحداً أم لا، وخصوصاً أن البعض يرى أن أوروبا باتت عالقة بين عملاقين يتمنيان اختفاءها: بوتين من الشرق وترامب من الغرب. وفيما يزداد عشية الانتخابات تنامي التيارات المشككة بجدوى الاتحاد الأوروبي وبكلّ ما تعنيه «أوروبا» سياسياً واقتصادياً، يستمر قادة الاتحاد باللجوء إلى الخطاب الهوياتي والحديث عن «الذات الأوروبية» والقيم الديموقراطية والحريات وعن خطر ترامب أخيراً، متجاهلين حتى الآن مسألة الإصلاحات البنيوية التي يحتاج إليها الاتحاد السياسي واليورو.
ختاماً، يقول مثل صيني قديم «وحده المغفّل ينظر إلى الإصبع عندما تشير الإصبع إلى السماء»، وهو قد يختصر لسان حال بروكسل التي ترى في ترامب خطراً بذاته وتتعامل معه على هذا الأساس، من دون أن ترى الشبه بين الديناميات التي أوصلته إلى سدة الرئاسة وتلك التي قد تؤدي إلى صعود أشباهه في الانتخابات الأوروبية إذا لم يتم إجراء تعديلات جذرية في المنظومة الأوروبية.