لم يكن احتلال العام 48 كافياً في سجل معاناة أهل حي «المحطة» في حيفا، فأضافت إسرائيل إليه حصاراً يفاقم احتلاله. في العام 1948، تمسّك أهل الحي بأرضهم ولم يغادروها، إلا أنهم اليوم يواجهون مخطط تهجير جديد، قد يضمهم إلى قافلة لاجئي القضية الفلسطينية.حيفا ــ فراس خطيب

عند الدخول إلى حي المحطة الحيفاوي، يتوجب الانتظار، وأحياناً لوقت طويل، حتى مرور القطار الآتي من تل أبيب. لا مدخل آخر لهذا الحي الأسير المحاصر من جهاته الثلاث بجدار الميناء الضخم، وفي الجهة الرابعة سكة حديد.
كانت السكة الحديد هذه تسمّى ذات يوم بـ«الحجازية»، تخرج القطارات منها إلى رأس الناقورة ومن ثم إلى بيروت ودمشق فالحجاز. كانت تلك السكة من أجمل ملامح الحي، لكنّها تحولت اليوم إلى حاجز يفصلهم عن حيفا المدينة، بعدما كان الحي «أصل حيفا».
لم يعد الحي حياً منذ زمن، فهو مجموعة من الأبنية العربية القديمة غير المرمّمة. جزء منها آيل للسقوط، وجزء ثابت بصعوبة يسكنه العرب. ومن يزور الحي في فترات متباعدة يعرف جيداً أن سكانه يهجرونه من عام إلى آخر.
يقع الحي على شاطئ البحر تماماً. المساحة التي تفصله عن المياه لا تتعدى الـ30 متراً. لكن على هذه الأمتار يقع ميناء حيفا الصناعي ويفصله عن الشاطئ سياج بعلو خمسة أمتار. ومن يريد زيارة البحر عليه السفر 15 دقيقة على الأقل، في السيارة ليصل إلى الحي اليهودي «بات غاليم». هناك البحر مسموح.
الجميع يعرف أين يسكن الحاج محمد قمبازي. فهو أقدم من في الحي. يسكن القمبازي في أحد البيوت العربية القديمة مع ابنه وزوجة ابنه وأحفاده الخمسة. كان صعود الأدراج الى بيته مرعباً نظراً إلى عدم ثباتها، فالبلدية تمنع الترميمات في الحيتظهر الملامح العربية للبيت من الداخل أيضاً؛ السقف العالي والغرف الوسيعة والنوافذ القليلة والظلمة الباردة. في الغرفة الجنوبية للبيت، يجلس الحاج محمد القمبازي مقعداً لا يتحرك كثيراً نتيجة السمنة الزائدة. تجاوز الخامسة والسبعين من العمر وعاش غالبية حياته في الحي. ما زالت ذاكرته كما هي، لم تغيّبها ملامح الحي المهترئة. يقول متحسراً «هنا كانت حيفا قبل الـ48. كان المسلمون والمسيحيون يعيشون في هذا الحي. كان أجمل أحياء المدينة… كان ينبض حياة».
قبل 20 عاماً تقريباً، كان الحي ينعم بكل مرافق الحياة. كان مكشوفاً على المدينة ومرافقها ومراكزها ومؤسساتها الثقافية والفكرية. لكنّ شيئاً من هذا غير موجود اليوم. حتى الكنيسة الكبيرة التي تعدّ من أهم معالم الحي، أمست مهجورة، ولا سوق فيه ولا مدارس.
لا شيء في حي «المحطة» يحفز على التجوال: الضجة فيه غير محتملة. شاحنات ورافعات وبواخر من الميناء، وضجة القطارات التي لا تتوقف. يقول إحسان «سئمنا حياتنا، هذه ليست حياة، قدّمنا مليون طلب إلى البلدية من أجل توفير أدنى الحقوق لنا، لكنها لم تفعل... ولكننا باقون هنا، لن نترك الحي مهما ضيّقوا علينا».
ويقول المدير العام لجمعية التطوير الاجتماعي في حيفا حسين إغبارية لـ«الأخبار»: «يدور في أروقة البلدية مخطط لتوسيع مرافق الميناء وتهجير أهل الحي منه»، مشيراً إلى أن وزارة الإسكان استولت على البيوت بعد العام 48، وحوّلتها إلى الشركة الحكومية «عميدار». وهذا يعني، أنّ أهل الحي يسكنون في البيوت، بحسب اتفاقية «المفتاحية» التي تقضي باستئجار البيوت على المدى البعيد ومنع توريثها. ويفيد اغبارية بأن «حي المحطة هو الأكثر تهديداً، لكنّ أحياء حيفا العربية الأخرى تعاني هي أيضاً من التهجير».
إذا استمرت وتيرة التهجير سارية في حي المحطة، فإنه حتماً سيزول، ليكون قطعة مهجورة من «ملك الدولة» وهو لا يزال ملك أهل الحي الحقيقيين. ثمة أناس يسكنون في حيفا ولا يعرفون بوجود المحطة، ولا أن «في المكان دا كان في ناس»، كما يقول الشاعر أحمد فؤاد نجم.