strong>معمر عطوي
مسيـــرة نضاليـــة بدأت من ســـهل البـــقاع... واستقـــرّت في جـــبل القنـــديل

جولة الرئيس التركي عبد الله غول، إلى منطقة ديار بكر ذات الغالبية الكردية في جنوب شرق تركيا، كثيرة الدلالات، وهي تؤكد نية السلطة «الإسلامية» فتح صفحة جديدة مع الأكراد الذين يخوضون منذ عام 1984 مواجهات عسكرية دامية مع الجيش التركي، حصدت حتى الآن أكثر من 37 ألف قتيل، للحصول على الاستقلال.
فمذ وصوله إلى السلطة في تركيا في عام 2002، اعتمد حزب العدالة والتنمية (يمين الوسط) ذو الأصول الإسلامية، سياسة جديدة تجاه الأكراد، في محاولة لتلبية معايير الاتحاد الأوروبي، تمهيداً لانضمام هذا البلد الإسلامي إلى النادي الأوروبي.
وتعهدت أنقرة بديموقراطية أوسع واحترام حقوق الإنسان في خطوة نتج منها إلغاء حكم الإعدام الذي كان سيطال زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان المعتقل في جزيرة إمرالي في تركيا منذ عام 1999. وسمح بالبث باللغة الكردية على التلفاز الرسمي (وإن لفترات قصيرة جداً)، ذلك أن أبرز مطالب «حزب العمال» التي دفعته إلى النضال، كانت الدعوة إلى منح الأكراد الحقوق الثقافية، وإلى إجراء تعديلات دستورية وإلى إحترام حرية الرأي.
ووضعت أنقرة، بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة، حداً لـ15 سنة من حال الطوارئ في جنوب شرق البلاد، في إطار جهودها الرامية إلى دخول الاتحاد الأوروبي، كما أصدرت عفواً جزئياً يطال بشكل رئيسي أعضاء حزب العمال، لكنه لم يشمل قادة الحزب.
وكان حزب العمال قد بادر، في مناسبات عديدة، إلى عرض وقف إطلاق نار من جانب واحد مرات عديدة، كانت أولاها في عام 1999، عقب اعتقال أوجلان. لكن تركيا رفضت مراراً دعواته إلى التفاوض على حل للصراع الكردي. ولم تعترف بالهدنة، ما دفع بمقاتلي الحزب إلى إنهاء هذه الهدنة في حزيران 2004.
وفي عام 2005، جدَّد الحزب دعوته إلى وقف أعمال العنف لمدة شهر بدءاً من 20 آب وحتى 20 أيلول، في خطوة لبناء الثقة مع الحكومة التركية، وذلك في أعقاب زيارة تاريخية لرئيس الوزراء التركي، رجب طيب أردوغان، في 12 آب من العام نفسه، إلى ديار بكر.
ولم ييأس الحزب، الذي غيّر اسمه العام الماضي إلى «مؤتمر الحرية والديموقراطية في كردستان»، والمعروف اختصاراً باسم «كادك»، من إطلاق مبادرات جديدة في هذا الاتجاه، فقد أعلن هدنة أخرى في تشرين الأول من عام 2006، بيد أن أردوغان رفض العرض، داعياً الحزب إلى ضرورة التخلي عن سلاحه من دون أي شروط.
وكان الإعلان الأخير للهدنة من جانب الحزب في 12 حزيران الماضي، وإن أرفقه بتأكيد أنه لن يتوانى في الدفاع عن نفسه والتصدّي لأي هجوم تركي يستهدف الحزب وكوادره.
غير أن الجيش التركي، الذي يتشدد تجاه هذا الحزب، اختار فترة ما قبل الانتخابات التشريعية التي جرت في 24 تموز الماضي ليقود حملته التحريضية على المتمردين الأكراد، في محاولة دعمتها الأحزاب العلمانية والقومية لحثّ الحكومة على إعطائه الضوء الأخضر، من أجل شنّ عملية عبر الحدود مع العراق ضد المقاتلين الأكراد، الذين يُقدَّر عددهم بنحو ثلاثة آلاف عنصر.
من جبال القنديل
حزب العمال الكردستاني هو حزب سياسي يساري مسلَّح ذو توجهات قومية كردية وماركسية ـــــ لينينية، هدفه إنشاء دولة كردستان المستقلة، للأكراد الذين يبلغ تعدادهم نحو 22 مليون نسمة، والذين يعيشون في الأراضي التركية والسورية والعراقية والإيرانية، لذلك يتجاوز الخوف من نشوء الدولة الكردية المستقلة أنقرة ليتعداها إلى طهران ودمشق أيضاً.
ونشأ الحزب في سبعينيات القرن الماضي، وتحول بسرعة إلى قوة مسلحة بزعامة أوجلان، وحوّل منطقة جنوب شرق تركيا إلى ساحة حرب في الثمانينيات والتسعينيات.
وكان الحزب حركة سرّية تبنت النهج الماركسي الثوري، ومن ثم اضطرت، إثر الهجمات الشرسة للدولة التركية، إلى الخروج إلى منطقة الشرق الأوسط (لبنان وسوريا) وتلقّي التدريب العسكري مع المقاومين الفلسطينيين. ومن ثم عادت بكوادرها المسلحة إلى المناطق الكردية الجبلية، حيث استقرت منذ عام 1985 في سفح جبل القنديل، الواقع على المثلث الحدودي بين تركيا وإيران والعراق، وهي منطقة شاسعة، جبالها مرتفعة ووعرة المسالك.
والحزب موضوع في قائمة المنظمات الإرهابية على لوائح الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران وسوريا وأستراليا.
وللحزب جناح عسكري، يُسمَّى قوات الدفاع الشعبي، ويهدف هذا الجناح إلى إنهاء سياسة التصفية والتجاهل للشعب الكردي، وحماية وتطوير المسيرة الديموقراطية لهذا الشعب حتى يتحقق الحل السلمي، ثم أضاف في ما بعد حرية القائد «آبو»، أي أوجلان، إلى لائحة مطالبه.
أما أبرز أهداف الحزب، فهي: توسيع وتمتين العلاقات الشرق أوسطية كردياً وعربياً وتركياً وفارسياً، وترسيخ حياة آمنة مستقرة واقتصاد راقٍ لشعوب المنطقة.
ويعتمد حزب العمال في الصراع على جهود المرأة والشبيبة في المناطق الكردية وتنشيط شرائح المجتمع كافة. ويشرك كل هؤلاء في حرب العصابات التي يخوضها.
امَّا مصادر تمويله، فهي الشعب الكردي وأصدقاؤه العرب والأتراك في العالم. ويستفيد من الجمارك المارة من مناطقه العسكرية.
ومنذ أشهر خلت، يقوم الجيش التركي بدق طبول الحرب على حزب العمال من خلال تعزيز مستويات قواته في جنوب شرق البلاد، حتى وصل عدد عناصره إلى أكثر من 200 ألف عنصر، معظمهم يتمركز على الحدود، معزّزين بدبابات ومدفعية ثقيلة وطائرات، بما يشير إلى نيّة تركيا القيام بعملية محتملة عبر الحدود.
ووصلت مستويات هذه القوات في إقليم سيرناك إلى 50 ألف عنصر مقارنةً مع ما بين عشرة آلاف و20 ألف عنصر عادة، فيما أكدت حكومة أردوغان أنها وضعت خططاً لاحتمال القيام بتوغل عسكري في شمال العراق لضرب عناصر حزب العمال، الذين تتهمهم أنقره باستخدام هذه المنطقة كقاعدة خلفية لعملياتهم في جنوب شرق الأناضول.
ترافق ذلك مع إعلان أردوغان، في السابع من آب الجاري، أن تركيا والعراق وقّعتا على هامش زيارة رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي إلى أنقرة، وثيقة تهدفُ إلى مكافحة المتمردين الأكراد الأتراك المتمركزين في شمال العراق.
«آبو» في الأسر
منذ الثمانينيات، أصبح عبد الله أوجلان رمزاً سياسياً وعسكرياً للحركة الكردية الاستقلالية، وتزايد عدد مؤيديه ومناصريه وسط الجاليات الكردية في كل أنحاء العالم. أوجلان، الذي يلقبه اتباعه بـ«آبو»، وُلد وسط أسرة تعمل بالزراعة في عام 1949 في بلدة أوميزلي التابعة لمحافظة سانلي على الحدود التركية ـــــ السورية. درس في جامعة أنقرة، حيث بدأ نضاله وسجن سنة 1972 لمدة سبعة أشهر بحجة نشاطه المؤيد للأكراد.
في سنة 1978، أسسّ أوجلان حزب العمال الكردستاني. وفي سنة 1980، غادر تركيا ليعمل من المنفى، ولا سيما من دمشق، وسهل البقاع اللبناني حيث أقام معسكرات التدريب لأعضاء حزبه. ويُذكر أنه حوصِر مع مقاتلي الثورة الفلسطينية في قلعة الشقيف في جنوب لبنان في الأيام الأولى للاجتياح الإسرائيلي عام 1982.
في تشرين الأول من عام 1998، أُبعد أوجلان من سوريا، وذلك تحت الضغوط التركية الشديدة، التي كادت أن تتحوّل إلى حرب بين البلدين، بحجة اتهام أنقرة لدمشق بأنها تسمح لأوجلان ولحزب العمال الكردستاني بالتدرب والانطلاق من أراضيها ومن سهل البقاع اللبناني.
وقد اضطرّ أوجلان عندها لأن يتوجه إلى أوروبا، حيث حاول الحصول على حق اللجوء السياسي، لكنه أخفق.
ونجحت الاستخبارات التركية بالتعاون مع الموساد الإسرائيلي في اعتقاله في الخامس عشر من شباط 1999 في نيروبي، عاصمة كينيا. ونقل إلى جزيرة إمرالي وسط إجراءات أمنية مشددة. وقد دفع منظر أوجلان وهو مختطف ومكبّل، أنصاره وأنصار القضية الكردية إلى التظاهر في العواصم الأوروبية أمام السفارات الإسرائيلية والأميركية والتركية.
وخلال المحاكمة، قام أوجلان، بصورة مفاجئة، بتقديم الاعتذار لأسر الضحايا من الأتراك الذين قتلوا في أعمال العنف التي نفّذها حزبه. كما طالب أعضاء حزبه بتسليم السلاح وترك أعمال المقاومة المسلحة، وأبدى استعداده لأن يكون وسيطاً بين تركيا والأكراد بشرط عدم إعدامه. إلا أن المحكمة العسكرية التركية، التي أُلِّفَت خصيصاً لمحاكمته، رفضت عرضه، وأصدرت عليه حكماً بالإعدام شنقاً.
وقد لاقى هذا القرار الرضى والتأييد في تركيا، وأيّدته الولايات المتحدة التي رأت أن أوجلان هو «إرهابي دولي». أما الدول الأوروبية، فطالبت بعدم تنفيذ الحكم خوفاً من قيام الأكراد بتظاهرات عارمة تهزّ أمن هذه الدول، لهذا امتنعت تركيا عن إعدامه حتى الآن طمعاً في استمرار التفاوض مع الاتحاد الأوروبي من أجل الانضمام إلى منظومته.