بوينس آيرس ــ بول الأشقر
كريستينا كيرشنر الأكثر حظّاً للفوز في الانتخابات الرئاسية


منذ إطلالته على الساحة السياسية الأرجنتينية وزيراً للعمل بعد انقلاب عام 1943، لم يخرج الكولونيل خوان بيرون (1895 ــ 1974) منها. ومنذ إفراج الشعب المنتفض عنه عام 1945، عندما كان نائباً للرئيس، 24 ساعة بعد اعتقاله، أصبح هو خلال حياته، وورثته بعد وفاته، «أكثر بكثير من الرقم الصعب في الحياة السياسية الأرجنتينية، أكاد أقول جزءاً بنيوياً من الهوية الأرجنتينية»، يقول الباحث سانتياغو روزنبرغ.
بعد النظام العسكري، ورئاسة كارلوس منعم خلال تسعينيّات القرن الماضي، لم يبق شيء من فكر بيرون، المحدود أصلاً. الاسم بالطبع ليس البيرونية بل «العدالتية» إذا صحّ التعبير. في الأساس، ليس فكره الأهم بقدر ما هي نتيجته الفعلية. فقد جعل الطبقات الشعبية لاعباً أساسياً في الحياة السياسية. وفي الواقع، عجزت العلوم السياسية عن تحديد ماهية هذه الحركة، وهنا أيضاً من الأبسط، تحديدها من نتيجتها.
«البيرونية» هي اللاعب الأكبر، القادر على التعطيل بسبب حجمه وأيضاً على الإصلاح للسبب نفسه بعد الوقعة، وهي عادة أرجنتينية عريقة. فآخر وقعة حصلت عام 2001، وكادت أن تكون قاضية عندما انهارت «المعجزة الاقتصادية» التي بناها منعم، بتوجيه من صندوق النقد الدولي وإشرافه وتسويقه.
جميع الأحزاب تأثّرت بشكل عميق بالانهيار. إلّا أنّ «الحركة العدالتية» بقيت آلة سياسية شغّالة شبه وحيدة. إنّها التراث والسلاح الذي أشهرته ممثلة اليسار الوسط، كريستينا فرنانديز، زوجة الرئيس الحالي نيستور كيرشنر، الفائزة الأكيدة في انتخابات يوم أمس، والتي نافسها فيها الاقتصادي الوسطي، روبيرتو لافانيا، واليميني رودريغيز سا، العربي الأصل.
قبل 4 سنوات، كان البيرونيّون قد وصلوا إلى المراكز الثلاثة الأولى. وتحقّقت نبوءة بيرون الذي أسرّ بها في آخر أيام حياته: «إذا رأيتم يوماً البيرونيّين يتشاجرون، فلا تخطئوا، إنّهم لا يتشاجرون بل يتكاثرون»، يتذكّر ضاحكاً المحلّل السياسي في «القناة سبعة» التلفزيونيّة الأرجنتينيّة، بيدرو بريغير.
وخلال تلك الفترة، كانت الأزمة في أوجها. المعامل تقفل بالآلاف. شوارع العاصمة مقطوعة ومكتظة بالعاطلين عن العمل. كانت أموال الناس محجوزة في المصارف، وبعض المحافظات تطبع عملة موقتة لتأمين حاجاتها. أمّا اليوم، فالبلد يعيش حالة من النمو فريدة حتى في تاريخ الأرجنتين. لا يوجد أرجنتيني واحد من بين الـ27 مليون مقترعاً الذين توجّهوا للإدلاء بأصواتهم أمس، يجهل أن وضعه الخاص قد تحسّن خلال السنوات الأربع التي مرّت.
قبل أربعة أعوام، لم يكن هناك أيّ أرجنتيني يتوقع «أن الوضع سيتحسّن بهذا الشكل»، يجزم روزنبرغ، «لذلك فانتخابات يوم أمس، هي استفتاء على الولاية التي تنتهي، ولاية زوج المرشحة المرجحة للفوز».
غير أنّ ذلك لا يعني أبداً أنّ كلّ شيء على ما يرام. فمشاكل الفقر والتضخم والطاقة تضغط بقوّة على الوضع الاقتصادي، وقد تنذر بتعثر جديد، من المحتمل أن تبرز نتائجه قبل انتهاء ولاية كريستينا.
بوينوس آيرس، التي يعني اسمها «الرياح الطيّبة»، تشبه مدريد وباريس أكثر ممّا تشبه أيّ عاصمة أميركية لاتينية. حتى ساعة متقدّمة من الليل، لا تتوقّف المقاهي والمطاعم والمسارح وكل ما يمكن تصوّره من نشاطات ثقافية؛ فالعاصمة استعادت أضواءها وحلّتها، وعاد «التانغو» ديناً وفلسفة قبل أن يكون رقصة، يتشارك به الجميع ويسرد قصّة الحياة بين رجل وامرأة على حلبة «الميلونغا». غير أنّ العاصمة لن توالي. فقدرها «محاربة البيرونية». وليس غريباً أن غالبيّة سكّانها من الطبقة الوسطى.
يوم أمس، اقترع الأرجنتينيّون لانتخاب رئيس بين 14 مرشّحاً، ولتجديد نصف مجلس النوّاب وثلث مجلس الشيوخ وعدد من حكام المحافظات ومجالسها. التوقّعات تشير إلى فوز كريستينا كيرشنر في 23 محافظة. وستخسر في محافظة واحدة، هي سان لويس الصغيرة، حيث يوجد أقلّ من 1 في المئة من الناخبين، وتشكّل معقلاً انتخابيّاً للأخوين رودريغيز سا. كما ستخسر في بوينوس آيرس، التي تمثل 10 في المئة من الجسم الانتخابي. إلّا أنّ ذلك لن يؤثّر على «الآلة الشغّالة» التي ستعوّض لها عن هذه الخسارة الرمزية.
بدءاً من الضاحية الفقيرة لبوينوس آيرس، في ما يسمّى «أحياء البؤس» التي تمثّل وحدها حوالى ربع الناخبين. «مرّة أخرى، تشير العاصمة إلى أنّها واجهة الأرجنتين، إلّا أنّها ليست الأرجنتين»، يقول الصحافي، مارسيلو إزكيردو، ويضيف «لقد قرّرت ألّا تضمّ إلى رياحها الطيّبة عطر امرأة بيرونية»، في إشارة إلى الفيلم الإيطالي الشهير.