strong>طوني صغبيني
لم يكن تهديد الفصائل المتمردة في دارفور، الأسبوع الماضي، بمهاجمة القوات الصينية في الإقليم خبراً مفاجئاً لوزارة الخارجية الصينية، المدركة لخطورة هذه الخطوة. لكنه يُعدّ التهديد الأول لعسكر الصين، الحديث العهد في المهمات الخارجية.
وتعيد هذه الحادثة لفت النظر إلى مدى فعالية السياسة الخارجية الصينية القائمة، خارج محيطها الجيوسياسي المباشر، على الاقتصاد حصراً. إذ تسعى وزارة الخارجية إلى تأمين مجالات الاستثمار وأسواق الاستهلاك ومصادر الطاقة، من دون أن تضمّن ذلك أي محتوى إيديولوجي، أو ترفقه بمطالب سياسية. فلا نظام الحكم ولا حقوق الإنسان ولا تحالفات الدولة تمثّل خطوطاً حمراء للعلاقات التجارية الصينية.
هذه البراغماتية، وتعرية التوسّع الاقتصادي من أي أهداف سياسية مباشرة، تتيح للعملاق الآسيوي أن يتمدّد في الأسواق العالمية، من دون أن يستنفر عداء القوى العالمية الكبرى، وتسويق مقولة «الصين فرصة عظيمة وليست تهديداً عظيماً»، بحسب تعبير رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو أول من أمس.
ولعلّ أبرز نجاح لهذه السياسة يتمثّل في أوروبا نفسها. إذ بعدما قطع العلاقات تماماً عام 1989 إثر أحداث ساحة تيانانمين الشهيرة، التي قمع خلالها الحكم الصيني المعارضة بالقوة، أعاد الاتحاد الأوروبي العلاقات تدريجاً، رغم الإبقاء على حظر الأسلحة، وأصبحت أوروبا الشريك التجاري الأول للصين وبالعكس.
وخلال تسعة أعوام، عقد الاتحاد الأوروبي عشر قمم مع بكين، ليقدّم أيضاً الاقتصاد على السياسة في علاقته مع «التنين الأصفر»، إذ خلت القمة الأوروبية ـــــ الصينية الأخيرة من أي إشارة تصادمية في الشأن السياسي، سواء إلى داخل الصين (حقوق الإنسان)، أو إلى محيطها القريب (تايوان والتيبت وميانمار)، والبعيد (إيران وأفريقيا)، واقتصرت الخلافات على القضايا التجارية، كقيمة العملة والخلل في الميزان التجاري والملكية الفكرية.
لكن هذه الاستراتيجية تواجه اليوم إشكاليات جديدة خلقها الحضور الصيني المتزايد على الساحة الدولية، تجلياتها الأولى ظهرت في دارفور. ففي ظلّ المقاطعة الدولية الواسعة لحكم الرئيس السوداني عمر البشير، استفادت بكين من الفراغ لتبني علاقات تجارية ناجحة مع الخرطوم، تمحورت حول تصدير السلاح واستيراد النفط. وبعد تدهور الوضع في إقليم دارفور الغني بالنفط، وتضاعف الحاجات الصينية إلى موارد الطاقة، كانت الفرصة مؤاتية لبكين للذهاب خطوة إضافية في تأمين مصالحها هناك، فأعلنت تعهدها بتأمين قسم مهم من الدعم والعتاد والعديد لقوة حفظ السلام المرتقب نشرها في الإقليم.
إلا أنه بعد ساعات من وصول طلائع القوة الصينية إلى السودان، أعلنت حركتا تمرد أساسيتان أنهما ستعاملان القوات المذكورة كجيش غزو «لأن لها اتفاقات عسكرية مع حكومة الخرطوم وتقدّم لها السلاح»، متهمين بكين بأنها «تأخذ النفط مقابل الدماء».
وتقود ردّة الفعل هذه إلى ملاحظتين: الأولى، في شأن معاني الانتشار الصيني الجديد، ولا سيما أن بكين تواجه هجمات شبه دورية على منشآتها النفطية في أفريقيا. وإذا كانت المشاركة الصينية في دارفور تعبّر عن توجّه أشمل بزيادة التدخل المباشر خوفاً من ظمأ الطاقة، من المرجح أن الساحة الدولية ستعيش في السنوات المقبلة تزايد الحضور الصيني السياسي والعسكري.
الملاحظة الثانية ترجّح استنتاج أن الاستراتيجية القديمة المجرّدة من المعنى السياسي لن تعود قابلة للتطبيق، وستجد الصين نفسها بطريقة أو بأخرى بحاجة إلى طرح سياسي يغطي تدخلها العسكري والسياسي المتزايد. طرح قد لا يكون مطابقاً لأسلوب الرسالة الأميركية (محاربة الإرهاب ونشر الديموقراطية وحقوق الإنسان...)، لكنه لن يكون بعيداً عنه. وقد نجد ملامحه في طريقة رفض الخارجية الصينية لتهديدات المتمردين أول من أمس بقولها إن «الجانب الصيني بذل جهوداً غير متوانية لدفع جهود السلام في السودان».