strong>طوني صغبيني
«مؤسسات على غرار الاتحاد الأوروبي»، هو الحلم الذي يتردّد على ألسنة عدد من الدبلوماسيين والمحللين في دول رابطة جنوب شرق آسيا (آسيان)، التي وقّعت الأسبوع الماضي ميثاقاً «تاريخياً» يتيح، للمرة الأولى، إطاراً مؤسساتياً للمنظمة يتطرق إلى مسائل الديموقراطية وحقوق الإنسان ويعمّق التعاون الاقتصادي والسياسي

تسعى الدول الأعضاء في منظمة «آسيان» لتحويلها إلى منظمة إقليمية حقيقية تتخطى عتبة التعاون الاقتصادي، ولا سيما أنها اتخذت، منذ «إعلان بانكوك» عام 1967، شكلاً اقتصادياً ذا وجه سياسي، تمثّل في إبعاد الظلّ الشيوعي الصيني الداعم وقتها للحركات الثورية جنوب حدوده وداخل دول المنظمة نفسها.
لكن تطوّر الرابطة كان بطيئاً وحذراً، بسبب خلافات سياسية وتفاوت اقتصادي وثقافي بين الدول الأعضاء، التي لم تستطع عقد قمتها الأولى إلا عام 1976. وكانت تتجنّب خلال تلك الفترة التطرق إلى القضايا الخلافية، وهو ما أفقدها البنية القانونية والمؤسساتية.
لكن وجه آسيا تغيّر، بعد نحو أربعين عاماً على تأسيس «آسيان»، وحتّم تسريع تحوّل المنظمة إلى هيكل إقليمي أكثر تماسكاً وطموحاً، يساعدها في ذلك النجاح والاستقرار الاقتصاديان فيها.
ولعلّ النجاح الاقتصادي الصيني والياباني، الذي أدى إلى انكماش التجارة الإقليمية بين دول «آسيان» وعودة بعضها، مثل إندونيسيا، إلى دورها القديم بصفتها اقتصادات زراعية وموردة للمواد الخام والسلع نصف المصنعة، هو الدافع الأكبر لتعجيل الاندماج الاقتصادي بهدف إعادة اجتذاب الرساميل التي هجرتها إلى مناطق أخرى من آسيا.
لكن لتحقيق ذلك كان لا بد للرابطة من دراسة خلاصة تجربة الاتحاد الأوروبي القائلة بأن الاندماج الاقتصادي لا يستقرّ إلا بتناغم سياسي ـــــ أمني ـــــ نقدي.
ومن وجهة نظر اقتصادية، يبدو مستقبل «آسيان» زاهراً: أضخم مناطق التجارة الحرة في العالم بحلول عام 2015. قاعدة انتاج متنوعة (تكنولوجيات متطورة، وصناعة ثقيلة، وزراعة، وخدمات...). علاقات في تحسن مطّرد مبشّرة بنقل الثقل الاقتصادي من غرب الكرة الأرضية إلى شرقها مع الصين وأستراليا والكوريتين والهند التي تؤلّف مجتمعة أكثر من نصف سكان العالم وتجارته الدولية.
أما أبعد من الاقتصاد فالمسألة مختلفة. ورغم بعض النجاحات السياسية المحدودة، مثل اعتماد الدبلوماسية الوقائية في حلّ النزاعات بين الأعضاء، وتوقيع عدد من المواثيق الأمنية، تبقى الخلافات الكامنة مصدراً دائماً لتقليل التوقعات من المنظمة، التي لا تمرّ قراراتها من دون إجماع من أعضائها.
هذا ما بدا واضحاً خلال توقيع الميثاق الأخير في ما يتعلق بحقوق الإنسان والديموقراطية، حيث اتسم النص بأقصى درجات الحذر، وشطب منه كل إجراء ردعي بحق الدول المخالفة، كأن إقراره كان بروتوكولياً فقط، حيث وقعت عليه دول الحزب الواحد، ومنها لاوس وكمبوديا وميانمار وفييتنام وبروناي وتايلاند، والديموقراطيات الناشئة مثل إندونيسيا وماليزيا والفيليبين وسنغافورة.
وتقف الخلافات الثقافية والاقتصادية إلى جانب الخلافات السياسية، حيث تتفاوت بشدة الأنظمة القانونية لدول «آسيان»، ووضعها الاقتصادي، إذ لا يزال عدد من أعضائها يعتمد على المساعدات الأميركية والصينية في ظلّ محدودية قدرة الرابطة على تخصيص المساعدات لها، على غرار الاتحاد الأوروبي الذي تتحمل دوله المتطورة مسؤولية تنمية دوله الأقل تقدماً.
وتقف هذه المسائل عوائق حقيقية تجاه تعميق الاندماج، الأمر الذي ظهر في استبعاد طرح عملة موحدة للرابطة، وفي كلام وزيرة التجارة الإندونيسية ماري يانجيتسو على أن التكتل «يرمي إلى تأسيس قاعدة إنتاج مشتركة بدرجة أكبر من سوق واحدة».
لكن يبدو أن أهم ما يعوق «تحوّل الرابطة إلى اتحاد» هو عدم وجود محور قوي داخلها يدفع في هذا الاتجاه مثلما كان التحالف الألماني ـــــ الفرنسي بالنسبة لأوروبا، في ظلّ انهماك دولها بمشاكلها الداخلية الممتدة من الاقتصاد إلى الانفصاليين (الفيليبين ـــــ إندونيسيا) إلى المعارضة المسلحة.
ويخيّم الظل المزدوج للولايات المتحدة والصين على «آسيان»، ويحكم شدّ الحبال بينهما جانباً مهماً من تطور الرابطة؛ فلواشنطن علاقات تاريخية ومصالح واسعة مع الأنظمة الحاكمة هناك، عمّقها في الماضي الخوف المشترك من انتشار الشيوعية، وتطوّرت اليوم عبر المساعدات والاستثمارات واتفاقية «السياسة المشتركة لمكافحة الإرهاب» التي وقّعت عام 2001 لتوحيد الجهود مع البيت الأبيض في مواجهة «التهديدات المشتركة».
أما الصين فاستطاعت ردم هوة الثقة مع جاراتها الجنوبية منذ نجاح إصلاحات دينغ كسياو بينغ أوائل التسعينيات، وتحوّلت العلاقة بين الجانبين إلى «شراكة استراتيجية»، بحسب تعبير رئيس الوزراء الصيني وين جياباو، يدفعها قدماً نمو التجارة الثنائية بمعدل 40 في المئة سنوياً. تُضاف إلى ذلك سيطرة الدياسبورا الصينية (المهاجرين) على قسم لا يستهان به من اقتصادات دول «آسيان» وما له من تأثير على صنع القرار فيها لمصلحة بكين.
وفيما لا تزال العلاقة بين واشنطن وبكين في آسيا الجنوبية تنافسية لكن غير تصادمية، تبقى «الملفات العالقة» بؤرة كامنة لتصعيد الخلافات؛ فبعد إغلاق ملف كوريا الشمالية، تبقى مسائل تايوان وجزر بحر الصين الجنوبي (التي تتنازع على سيادتها الصين وخمس دول أخرى هي تايوان وفييتنام والفيليبين وماليزيا وبروناي)، والقضايا المستجدة مثل ميانمار، ساحة خلاف صيني ـــــ أميركي تؤثر مباشرة على «آسيان». خلاف تتصاعد حدّته كلما خطت واشنطن خطوات جديدة نحو دعم القواعد العسكرية الأميركية وإقامة الدرع الصاروخية الآسيوية التي تضمّ دول الرابطة وتايوان ـــــ والموجّه أساساً ضد الصين، التي تحاول أن تردّ عليه بتعزيز التعاون العسكري بدورها مع «آسيان». ولعلّ المنظمة الآسيوية الموزعة دولها بين النفوذين الصيني والأميركي تحاول إرضاء الطرفين؛ الأميركي عبر توثيق الصلات السياسية ومكافحة الإرهاب وإشارات الديموقراطية وحقوق الانسان، والصيني عبر توثيق الصلات الاقتصادية وعدم التدخل في شؤون الدول المقربة من بكين ومنها ميانمار.