strong>حسن شقراني
علاقة تحكمها ملفات الاقتصاد والنووي وزحف «حلف شمال الأطلسي»

قبيل انعقاد القمّة الروسيّة ـــــ الأوروبيّة في المقرّ الملكي السابق في «مافرا» البرتغاليّة الجمعة الماضي، كشفت صحيفة «فايننشال تايمز» عن وثائق أعدّها الاتحاد الأوروبي لحكومات أعضائه، نصّت إحداها على أنّ روسيا «شريك في مجالات متعدّدة، غير أنّها من الأرجح ستبقى منافساً أو حتّى خصماً، في مجالات أخرى».
الكشف تزامن مع إعراب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن أمله أن يتمّ التوصّل إلى اتفاقيّة شراكة «قريباً» تستبدل تلك الموضوعة منذ عام 1994. لكن وضع مسوّدات لهذه الاتفاقية كي تقرّ في القمّة المقبلة، انزلق تلقائياً من جدول الأعمال، لما شهدته الفترة الفاصلة بين قمّة سامارا الروسية الأوروبية، التي عقدت في وقت سابق من العام الجاري، وقمّة «رفع العتب»، التي استضافها رئيس الوزراء البرتغالي خوسيه سوكراتس.
هي بالفعل قمّة لرفع العتب، «حفاظاً على التقاليد». ولعلّ ذلك جعلها «القمّة الأغرب بين الجانبين»، حسبما وصفها مسؤول أوروبي تحدّث لصحيفة «كومرسانت» الروسيّة. لم يتمخّض عنها شيء. فماذا اعترى العلاقة بين عملاقي أوروبا؟
إذا تمّ التسليم بأنّ إمدادت الطاقة الروسيّة لأوروبا الغربيّة تحكمها إحداثيّات ثابتة، تؤمّن لبلدان الاتحاد الأوروبي استمرار ضخّ خُمس احتياجاته من الطاقة من جارته الشرقيّة، فإنّ الحدود الفاصلة بين الشراكة والخصومة تكمن في «السياسة السيّئة».
«جميعنا يلاحط نمطاً إيجابياً من العلاقات التجاريّة. لكن إذا نظرت إلى السياسة، الموضوع سيّئ جداً». لم يكن في وسع المدير العام لشركة الكهرباء الروسيّة «يو إي أي»، أناتولي تشوبايس، سوى التعليق بهذه العبارة على «التدهور» النسبي الذي أصاب علاقة موسكو مع بروكسل في شأن العديد من المواضيع السياسية.
بولندا، أو بالأحرى إدارتها السابقة (الأخوان كاتشينسكي)، التي اعتُبرت حصان طروادة أميركي لعزمها على استضافة إحدى قواعد الدرع الصاروخيّة المثيرة للجدل، كانت قد رفضت، مستخدمة «حقّ النقض»، المضي قدماً بالتفاوض في «شراكة جديدة» مع روسيا، بسبب الحظر الذي تفرضه موسكو (منذ عام 2005) على المنتجات البولنديّة من اللحم إلى جانب عوائق تجاريّة أخرى.
وتوتّر العلاقات مع دول البلطيق فتح كوة جديدة في جدار التوتر؛ فقد اتّهمت موسكو في الفترة الأخيرة إستونيا ولاتفيا تحديداً باحتضان «موجة نازية جديدة». ولا يمثل الاتهام الروسي لإستونيا بعرقلة إنشاء خط أنابيب «نورد ستريم» ،الذي يمرّ تحت البلطيق، سوى واحد من إرهاصات النزاع الذي نشب حول «الخطوة الاستفزازية» بنقل تمثال الزعيم الشيوعي الراحل فلاديمير لينين من العاصمة الإستونية، تالين، التي ردت باتهام موسكو بالقرصنة على حواسيب الدولة السوفياتيّة السابقة.
ويثير سعي كلّ من بولندا ولاتفيا وليتوانيا وإستونيا إلى تضمين مؤتمر مجلس أوروبا حول جرائم الحرب العالميّة الثانية «ما ارتكبه النظام السوفياتي»، حساسيّة قوميّة موجودة أصلاً عند الروس وتبلورت في الفترة الأخيرة من خلال الاحتجاجات على كيفيّة التعاطي مع المتحدّثين بالروسيّة في بلدان الجوار.
محاور الخلافات هذه مع بولندا ودول البلطيق (لم ترسل الدول المذكورة مندوبين عنها إلى قمّة «مافرا»)، قد تكون قابلة للاحتواء، وخصوصاً أنّ طاقم القيادة السياسيّة الجديد في وارسو، برئاسة دونالد تاسك (زعيم «القاعدة المدنيّة»)، أعرب عن نياته تليين العلاقات مع موسكو، وهو ما بدأ بالفعل مع دعوة المفتشين الصحيين الروس لزيارة مصانع اللحوم في بولندا.
كذلك، فإنّ موضوع البطاريات الصاروخيّة العشر الأميركيّة، ازداد تعقيداً، مع رفض البولنديّين له (بنسبة تفوق 55 في المئة) وتحول إلى عنصر من عملية «المساومة» التي تجري في شأن البرنامج النووي الإيراني.
غير أنّ الأزمة الأضخم التي اعترت العلاقات هي تلك التي اندلعت مع بريطانيا، على خلفيّة اغتيال الجاسوس الروسي السابق، أندريه ليتفينينكو، ومطالبة لندن السلطات الروسية بتسليم «المتّهم» بقتله، زميله السابق أندريه لوغوفوي. أزمة تفتح السجال باتجاه موضوع آخر، «معايير الشفافيّة» التي تقول أوروبا والولايات المتحدة إنها «مفقودة» لدى الطاقم السياسي الحاكم الآن في موسكو.
والشفافية تستدعي الحديث عن الديموقراطيّة (لعلّها النقطة الوحيدة التي شكّلت مأخذاً أوروبياً منطقياً على النظام الروسي خلال قمّة سامارا)، وتحديداً لأنّ روسيا مقبلة على استحقاقين مهمّين هما الانتخابات البرلمانيّة في 2 كانون الأوّل والرئاسيّة في آذار المقبل. غير أنّ الجانب الروسي يردّ على التحفظات بالتشديد على أنّ الديموقراطية الروسيّة «تسير على الطريق القويم. خطوة خطوة»، على حدّ تعبير كبير المستشارين الاستراتيجيّن لبوتين، فلاديسلاف سوركوف.
يضاف إلى ما تقدم مجموعة من القضايا الشائكة والمتشابكة في ما بينها، مثل صراع جورجيا مع الجمهوريّتين الانفصاليّتين أنغوشيا وأوسيتيا الجنوبيّة (مع وجود دعم روسي لانفصالهما)، وتحديد مصير إقليم كوسوفو (تدعم روسيا الموقف الصربي الرافض لاستقلاله)، والأهمّ نيات جيران روسيا الانضمام إلى «حلف شمالي الأطلسي»، وخوف موسكو من اقتراب «العسكر الغربي» من حدودها.
لا شكّ أنّ روسيا (منذ بداية الألفيّة الجديدة) أعادت صياغة مفهومها لأوروبا، بشقيها الشرقي والغربي، إن لم يكن من خلال فرض مواقف بالنسبة إلى الخلافات الأوروبيّة ـــــ الأوروبيّة، فمن خلال مقاربة القضايا الدوليّة (فرض «استشارتها» في تلك القضايا، وأهمّها الخلاف على البرنامج النووي الإيراني)؛ فبوتين توجّه إلى مافرا، وتداعيات خطابه حول «سلميّة» ذلك البرنامج كانت لا تزال تؤرق زعماء القارّة العجوز. وبالتالي، فـ«الشراكة الجديدة» التي يتحدّث عنها الجميع، تبدو حتّى الآن، مرتبطة بشق اقتصادي فقط يؤمن لأوروبا حاجاتها من الطاقة وللرساميل الروسية «المخيفة» مساحة للاستثمار لتدارك التضخّم في الوطن.
القمّة المقبلة تستضيفها سيبيريا في ربيع 2008، وحتّى ذلك الحين، هناك استحقاقات دوليّة وأوروبيّة خطيرة مرتقبة. والبادي منذ الآن أنّ «رفع العتب» سيكون الحدّ الأقصى المتوقع، فيما التوليف بين السياسة والاقتصاد يزداد تعقيداً.