strong>حسن شقراني
تستعدّ الولايات المتّحدة لـ«التغيير» وتتحضّر لإدارة ديموقراطيّة، يُرجح أن تنتجها الانتخابات الرئاسيّة العام المقبل (التقديرات حتى الآن تشير إلى فوز السيناتور هيلاري كلينتون). سياسياً، هذا التغيير يبدو أنه حُسم بعد فترة من إعادة انتخاب الرئيس جورج بوش، حين برزت المآزق الكثيرة للإدارة الجمهوريّة على صعيد السياسة الدوليّة وفي بعض الملفّات الداخليّة. أمّا بالمعنى الاقتصادي فلا تنفكّ تتبلور تحوّلات (بدأت ملامحها منذ بداية القرن) تفرض مقاربة الاستحقاق المقبل في أميركا من منظورين.
• الأوّل، داخلي؛ ففي ظلّ حتميّة انتقال الإدارة إلى الحزب الديموقراطي، تتهيّأ مجموعات الضغط في قطاعات الصناعة والتجارة والزراعة للحصول على أفضل الصفقات الممكنة خلال العام الأخير من العهد الحالي قبل استقبال البيت الأبيض لسيّد جديد (أو سيّدة جديدة). ففي قطاع الصناعات العسكريّة، على سبيل المثال، «المتعاقدون (مع وزارة الدفاع) لم يبدأوا فقط بالاستعداد للإدارة المقبلة، بل بدأوا بصقلها، والتقوا بهيلاري كلينتون»، حسبما يوضح المحلّل العسكري في «معهد ليكسينغتون»، لورين طومسون.
وهذا التحوّل، الذي تراه مجموعات المال والأعمال فرصة للضغط من أجل تمرير التشريعات التي تضمن القدر الأكبر من الأرباح (أو في الحد الأدنى النسبة الأقلّ من الخسائر)، يترافق مع صعوبة تكمن في التعاطي مع الأزمة الماليّة الممتدّة منذ الصيف الماضي، والتي أطلقتها أزمة الرهونات العقاريّة (اعتُبرت الأكثر حدّة منذ نحو عقدين). فما تشهده الولايات المتّحدة من أزمة ثقة بين اللاعبين في الأسواق الماليّة (صعوبة الحصول على الاعتمادات) يعدّ انهياراً للنظم المصرفيّة المعهودة ونشوء شبكة إقراض فهمها صعب لدرجة أنّ رئيس مجلس الاحتياطي الاتحادي، بن بيرنانكي، خضع لجلسة من أجل «تحديث» اطلاعه على مكامن السوق، من قبل مديري الصنايق الاستثماريّة.
كذلك، فإنّ الالتصاق بعقيدة السوق الحرّة يجبر قادة الاقتصاد على إطلاق تصريحات متضاربة، كان آخرها تعليق وزير الخزانة، هنري بولسون، على تقسيم توجيه السوق بين «التقنيين» و«الابتكار التلقائي»، بقوله إنّه لا يؤمن بوجوب أن يطغى الأوّل على الثاني، ومن ثمّ تراجعه عن هذه الرؤية باعتماد طرح جديد (إجراءاته لم تتبلور بعد) يتضمّن إعطاء النصائح للمقترضين من أجل معالجة تقصيرهم في قروضهم العقاريّة.
وفيما يتوقع أن يبدي القطاع الخاص (لوبي الأعمال المروّج لاستمرار الحريّة والاعتماد على اليد الخفيّة باعتماد ممنهج على السياسة) حنكة أكبر للتماشي مع التغييرات المرتقبة، ستواجه الإدارة المقبلة ما خلّفه تقاعس الجناح الاقتصادي في سابقتها، والذي ترك الأمور لـ«ابتكار السوق» من أجل معالجة صدأ العجلة. وليست «الخطّة الكبرى» التي كشف عنها جورج بوش أمس (وتتضمّن تثبيتاً لأسعار الفائدة لمعالجة أزمة الرهونات) سوى منعطف جديد (ربّما يكون الأخير) للإدارة المحافظة من أجل الالتفاف على وصول التنسيق بين القطاعين العام والخاص إلى حائط مسدود.
¶ المنظور الثاني الذي يُبرز حجم التحدّي لـ«التغيير» المرتقب، طبيعته دوليّة. فإضافة إلى ما يشهده الاقتصاد الأميركي من تباطؤ قد يهدّد بكساد، تقابل أزمة الثقة الموجودة في بورصة نيويورك، أزمة ثقة أخرى بين الأسواق الماليّة عبر المحيطات؛ فقد تحدّث مفوّض الاتحاد الأوروبي للشؤون الماليّة، خواكين ألمونيا، الإثنين الماضي، عن «حالة طارئة» في أوروبا أوجدتها أزمة الرهونات العقاريّة الأميركيّة (وما استتبعها من ارتدادات) وزاد من خطورتها عدم وجود شبكة أمان مالي بين البلدان الـ27 في الاتحاد من أجل مواجهة «الصدمات».
ويتوقع أن يبتكر القادة الماليّون الأوروبيّون إجراءات لـ«ربط الأسواق» (بين بلدانهم) لإحكام الحماية من موجات الاضطرابات الماليّة الآتية من الضفّة الأخرى للأطلسي، والتي لن يكون سهلاً على الرئيس الأميركي المقبل احتواء تطوّرها وتمدّدها. وبالتالي، يبدو أنّ الولايات المتّحدة ستعاني في تصدير أزمات اقتصادها وفي الاعتماد على الحركة الثابتة لتدفّق الرساميل.
وفي هذا السياق، أقرّت السلطات الصينيّة، بعد جلسة مغلقة لـ«اللجنة الاقتصاديّة المركزيّة» في «الحزب الشيوعي» أوّل من أمس، تغيير السياسة الماليّة من «حذرة إلى محكمة» لتدارك وقوع اقتصاد البلاد (المتوقّع أن ينمو بنسبة 11.5 في المئة خلال العام الجاري و10.8 في المئة العام المقبل) في فخّ التضخّم، وفي فخّ الأزمات الدوليّة. تغيير يشكل ضغطاً إضافيّاً على الاقتصاد الأميركي، وخصوصاً أنّ طلب المصارف المركزيّة المستمرّ على الدولار في منطقة شرق آسيا هو ما حال دون انهيار العملة الخضراء، المنخفضة قيمتها أساساً، والمتوقّع بقاء سعر صرفها مقارنة باليورو فوق حاجز 1.45، بحسب توقّعات «فلاست ويكلي» للشهر الجاري.
التغيير في أميركا حتميّ سياسياً، ولكن في الاقتصاد يخضع لمفاعيل أخرى، أكثر تعقيداً من تناوب على السلطة، يُبقي على حلقة «بوش ـــ كلينتون» أو يكسرها، لأنّه عهد «إنّه الاقتصاد يا غبي»... هل قال أحد إدارة ديموقراطيّة جديدة!