strong>وائل عبد الفتاح
لم تنم القاهرة ليلة أوّل من أمس. «هستيريا فرح» غير مسبوقة انفجرت في العاصمة المصرية وغيرها من المدن. مسيرات احتلّت الشارع. رجال ونساء وأطفال رقصوا على سطوح السيارات. ارتبك الأمن. باغته هذا الجمهور الهائج فرحاً. تحوّل المشهد إلى كرنفال للملابس الرياضية والقبعات الملونة. الأيدي تلامس الطبول، فتصدر إيقاعات الحروب القديمة. الوجوه مصبوغة على طريقة القبائل البدائية، كأنها في استعراض لطرد الأرواح الشريرة

جديد هو جمهور كرة القدم هذا. صبايا وشبان لم يعرفوا ملاعب الكرة قبل عام ٢٠٠٦، حين اقتنص الفريق الوطني بصعوبة، كأس البطولة الأفريقية المقامة على أرضه. لكن الفريق الذي يلعب في غانا هذا العام مختلف، بل أقوى. يقوده «المعلّم»، أو المدير الفني للفريق حسن شحاته، الذي أضفى سبباً إضافياً لموجة الفرح.
«إنه مدرّب مصري، أثبت قدرة مصر على الفعل»، هذا ما أعرب عنه الرجل الذي جمع عائلته في مقهى في حي المهندسين، ليلوّحوا بالأعلام ويلونوا وجوههم بعلم مصر، وكأنّهم في ملعب المباراة. زوجته قالت مازحةً «أريد تعويضاً بسبب الألم في كفي، لم أتوقف عن التصفيق كما لو كنت في عمر ابنتي». ردّت ابنتها بابتسامة تبرّر فيها وجوب التضحية بالراحة: «مصر لا تنتصر كلّ يوم».
إذاً هو الشعور بانتصار مصر بسبب فريقها الكروي، ليترجم هذا الفوز على شكل تظاهرات كسرت كل الحدود، واستمرّت حتى ساعات الصباح الأولى. فالفوز كبير. والنتيجة أكبر من توقّع حتّى المتفائلين. المفاجأة قادت الآلاف إلى الشوارع، دفعتهم الرغبة، بل اجتاحتهم للدخول في حالة جماعية.
رغبة لم تكن منظمة. لكنها انتقلت كالعدوى بين جيل يجرّب التورّط العاطفي مع المجتمع للمرّة الأولى. غالبية عشرينية خرجت في أفواج لتشجيع منتخب الكرة، وهتفت بالتناغم مع إيقاع الطبول: «مصر».
جمهور جديد ينتمي عناصره إلى الطبقة الوسطى. لم تسيطر عليهم حالة اليأس الجماعي. لا يزالون متمسكين بخيط من الأمل. اكتسبوا تحصيلاً علمياً جيداً، فعرفوا إمكاناتهم، ورأوا أنّ من حقهم الانتماء إلى بلد قادر على الانتصار، والبحث عن فرص أفضل. شعور غير معلن يظهر فجأةً كأنه غريزة مكبوتة أو حلم مهجور. ألهمتهم لعبة الكرة، بعدما لم تستطع مؤسسات الدولة تحريكهم. شغلتهم فكرة النصر أو القدرة على النصر. القدرة التي «ضاعت منذ قول أنور السادات إن ٩٩ في المئة من أوراق اللعبة في الشرق الأوسط بيد الولايات المتحدة». وبالتوازي، انتشرت الفكرة بين المسؤولين الرياضيين لتبرير هزيمة المنتخب الكروي.
إحدى الطاولات في الشارع ضمّت مجموعة من المثقفين الذين كانوا يحمّلون المباراة تحليلات كبيرة. لكن مجموعة المراهقين الجالسين بمحاذاتهم هتفوا بعد الهدف الرابع: «يمكن مصر أن تبقى عظيمة». صرخت مراهقة في الخامسة عشرة من العمر «إنها المرّة الأولى التي أحبّ فيها الأغاني الوطنية».
هي واحدة من مرات قليلة لا يصادَر فيها التعبير الجماعي الممنوع، الذي يقابل غالباً بعصا الأمن المركزي أو زنزانة أمن الدولة.
احتوت ملاعب الكرة جمهوراً جديداً، يبحث عن طاقة جماعية لتتفجّر في احتفال صاخب، مشحون بمشاعر انتماء غريبة على تكوينه ونشأته التي تشبه مشروعاً أنانياً، لا يشغله غير مستقبله الدراسي.
لم يتجلّ هذا الجمهور في صورة سياسية، فهو وريث أجيال أخافتها السياسة. لكن قد تكون هذه العاطفة الغامضة ذات أصول سياسية غامضة، انبثقت من الحركة التي انفجرت عام 2005، وكسرت حاجز الخوف ونزلت إلى الشارع معلنةً رفض النظام والرئيس وعصابة الفساد التي تحكم مصر. أو ربما شجعها مشهد التظاهرات المتكرّرة في بيروت، التي تداخل فيها حب الحياة ورفض مبدأ الخضوع.
يمكن أن تكون هذه الصور قد تغلغلت في خيال الجمهور المصري خلال مباريات الكرة، ليكونوا أهم من الفريق نفسه. ورغم انتمائهم إلى مستوى معيشي جيد، باتوا يتعلقون بأبطال خارج الحدود. كما جعلوا من محمد أبو تريكة، الفلاح العادي من قرية الجيزة، نجماً وبطلاً يقلقون عليه في غيابه.
كرنفال الانتصارات الرياضية هو بمثابة عودة الروح. هو أكبر من الرياضة بحد ذاتها. لكنها أيضاً الورطة العاطفية الأولى لجيل ولد بعد زلزال تشرين الأوّل عام 1992. فقرر الخروج إلى الحياة، وتدفق إلى الشارع في مسيرات احتفالية. لم يدفع فاتورة الخروج الجماعي كما يحدث في غالبية التظاهرات، لكن هذا الكرنفال، رسم نوعاً من الحرية.
كرنفال، هو تعبير جماعي مكبوت. هو رغبة في الصراخ، رغم أن الكرة أيضاً قد تكون أفيون الشعوب، إذا سلكت السلطة طريق تسييس إنجازات المنتخب، كأنها أحد إنجازات النظام أو الحزب أو حتى عائلة الرئيس حسني مبارك.
لكن الأجيال الجديدة تسيّرها مشاعر مختلفة، غير مسيّسة. ترغب في رفع العلم المصري، وتطير به داخل ملعب الكرة. فها هي قد جمعتها العاطفة مع حدث يخصّ مصر كلّها.
إلى أين ستذهب الورطة العاطفية هذه؟ كيف سيكون شكل جيل خرج إلى ملاعب الكرة لا إلى ساحات التظاهرات أو ميادين الحرب العسكرية؟ من يستطيع حكم جيل يريد تقليد شباب أوروبا في تطبيقه الحرية، حتى ولو في كرنفال ملوّن يحتفل بانتصار فريقه الوطني؟
المهم هو «روح الانتصار». هذا ما قاله رجل أربعيني، مضيفاً: «هذه المرة، انتصرت مصر بإصرار واضح. كان ظاهراً في الملعب أننا نفكر ونلعب بجدية، الأمر الذي لم يكن موجوداً في البطولة التي استضافتها القاهرة. هذه المرة انتصرنا خارج أرضنا، بفريق تكوّنه عناصر وطنية، غير محترفة في الخارج. يحق لمصر أن تنجح».