بغداد، كانت واحدة من العواصم العربيّة التي يستحيل المرور بها، من دون التعريج على مقاهيها الشعبيّة والنخبويّة في آن. اليوم، روّادها ومثقّفوها هجروا البلاد ومقاهيها التي طالتها صواريخ الاحتلال كما تفجيرات التكفيريّين
بغداد ــ زيد الزبيدي

بعض مقاهي بغداد العريقة، تصارع الزمن، قبل أن تسحقها عجلاته. هي مقاهٍ عرفت بـ«تخصّصها»، وتختلف عن سواها، لكون معظم روّادها من فئات معيّنة، ويعرف بعضهم الآخر، على الرغم من أنهم لا ينتمون إلى المنطقة التي فيها هذا المقهى أو ذاك. فـ«مقهى الشابندر» مثلاً، الذي أتى عليه انفجار شارع المتنبّي في العام الماضي، عُرف بكونه ملتقى الأدباء والمثقّفين، وخاصة في أيّام الجمعة، بينما يقبع «مقهى الطرب»، الذي يديره أبو ناطق، في ركن الشارع المؤدّي إلى المبنى السابق للإذاعة والتلفزيون، وهو ما زال قائماً، وما زال إلى حدّ ما ملتقى المطربين والملحّنين وشعراء الأغاني.
لكنّ المشكلة أنّ مقهى الشابندر يحدّه من الشمال شارع حيفا المضطرب، ومن الجنوب السفارة الإيرانية والمنطقة الخضراء، ومن الشرق جسر الأحرار (جسر الجنرال مود)، الذي يُقفل في الكثير من الأحيان، ومن الغرب منطقة علاوي الحلة.
هذا المقهى، الذي كان يحتضن في الأيام الخوالي أهل بغداد، أضحى اليوم الملاذ الأخير لجيل يحاول التشبث بعبق بغداد القديمة، الذي تحمله أباريق الماء المغلي، و«جمر الفحم» الذي يحتضن «قواري» الشاي و«قرقرات» النراجيل.
وعلى أنغام أغنية شجيّة لأم كلثوم، يتوقّف الزمن، ويعود أدراجه إلى حيث بدأ حسين طه مشواره الوظيفي في الحكومة قبل أربعين عاماً ونيف، وبالتحديد في محطة تلفزيون بغداد، أو «دائرة الإذاعة والتلفزيون» الحكومية كما كانت تسمى، قبل أن يجري حلّها في عام 2003 مع باقي مؤسّسات وزارة الإعلام بـ«شطبة قلم بول بريمر».
في مقهى أبو ناطق العتيد في الصالحية، تنظر في وجوه، ترفض أن تغادر زمناً ذهب وحلّ آخر محلّه، بكلّ حسناته وعيوبه، ولكن أبو علي يصر على استذكار ما يصفه بأجمل أيّام حياته التي قضاها بين أروقة دائرة الإذاعة والتلفزيون في عصرها الذهبي، الذي حدّده بالسبعينيات من القرن الماضي، بحسب تقويمه الخاص.
يقول حسين طه، وهو ينفث دخان نرجيلته نحو منطقة الكريمات القريبة من المقهى، «هناك ولدت وقضيت طفولتي ومراهقتي بين أزقّة الكريمات ونهر دجلة، وأعجبت بصبر صيادي السمك، وفرحت لصيدهم من البنّي والكطان والشبوط»، أشهر أنواع السمك النهري في العراق.
ثمّ يلتفت يميناً ويشير بيديه إلى ما يراه أطلال دائرة الإذاعة والتلفزيون. يقول «هناك شاهدت للمرة الأولى المرحوم خليل الرفاعي والمطربتين مائدة نزهت وعفيفة اسكندر والمطربين سعدي الحلي وقحطان العطار وياس خضر وسعدون جابر وحسين نعمة وفاضل عواد، بالإضافة إلى الملحّنين طالب القره غولي، ومحمد نوشي ومحمد جواد اموري... وكانوا أيضاً من رواد المقهى».
ويسترسل أبو علي، وعينه على صاحب المقهى العريق أبو ناطق، قائلاً «هذا المقهى جزء من تاريخ الصالحية، يوم كانت هذه المنطقة قلب الكرخ، وتجاور الشواكة التي كانت تضمّ سوقاً كبيرة للخضروات واللحوم والأسماك والعطاريات والأجبان وغيرها، قبل أن تتغيّر ملامحها وتحلّ محلّها العمارات الحديثة».
ويضيف «المقهى كان ولا يزال ملتقى الفنّانين وشعراء الأغنية والمسرحيّين وملاذهم الجميل، بالإضافة إلى الإعلاميّين، ويُعدّ مع ما تبقّى من المقاهي التراثية في بغداد إرثاً عريقاً يجب الحفاظ عليه من الاندثار. ففي القاهرة مثلاً ازدهرت مقاهيها الشعبية، وأصبحت مزاراً حتى للسياح، وأتمنى أن تكون مقاهينا بهذا المستوى».
تركنا أبو علي لنقلب صفحات تاريخ هذا المقهى، ووجدنا أنّ مؤسسه هو خليل شهاب العزاوي المكنى بـ«أبو ناطق»، وقد كان عمره 19 عاماً حين افتتحه في عام 1956، حيث أطلق عليه أيضاً تسمية «قهوة عزاوي»، التي اشتهرت بأغنية «يا قهوتك عزّاوي... بيها المدلل زعلان». واحتضنت منذ ذلك الحين عمالقة الفن في العراق، في مقدّمتهم حضيري أبو عزيز وداخل حسن وناصر حكيم وناظم الغزالي ويوسف عمر ورضا علي وسعدي توفيق البغدادي وشعوبي إبراهيم وجبار ونيسه وغيرهم، فضلاً عن شعراء الأغنية والصحافيين والأدباء والمسرحيّين والسينمائيّين.
وفي الثمانينيات من القرن الماضي، كان المقهى شاهداً على ولادة مطرب، اكتسح في ما بعد الساحة الغنائية العربية هو الفنان كاظم الساهر الذي لم ينسَ حتى اليوم أبو ناطق ومقهاه العتيد، وما زال يراسله ويبعث بتحياته له بواسطة مدير أعماله الشاعر منذر كريم والفنانين العراقيين المغتربين الذين يزورون بغداد بين فترة وأخرى.
ولا يزال ناطق، الذي يدير المقهى حالياً، يجتهد في اختيار أجود أنواع الشاي من أكبر أسواق بغداد، الشورجة، ويعده على الفحم وهو ما يعطيه نكهة وطعماً مميّزين، ويحافظ على تقليد استمرّ عليه المقهى منذ زمن طويل، باختيار أغنية معيّنة للسيدة أم كلثوم يبثّها طيلة اليوم. وبعد الانتهاء من الأغنية يعود المذياع، كما كان حتى لحظة إقفال المقهى مساءً.
اليوم تتجه عيون البغداديين التي أتعبتها مناظر العنف والدماء والتفجيرات، إلى مقاهي بغداد العريقة، كمقهى حسن عجمي ومقهى الزهاوي وغيرهما، إضافة إلى مقهى الشابندر الذي يلملم جراحه من أثر السيارة المفخخة التي استهدفت شارع المتنبي في آذار من العام الماضي، وأدت إلى تدميره بعد أن كان ملتقى من أشهر معالم بغداد، «حاضرة الدنيا» سابقاًَ!
وتنتظر القلوب بشغف دفء الإحساس الذي يرنو بصوت يوسف عمر وهو يغني «يا قهوتك عزاوي... بيها المدلل زعلان»، في مقاهي عاصمة العبّاسيّين، وهي تحاول أن تنفض عن ثوبها الجميل، غبار الزمن الرديء.