عاد حديث الانقلابات العسكرية إلى تركيا. لا يزال الخبر إعلامياً، لكنه الموضوع الأوّل منذ يوم الجمعة الماضي، وخصوصاً أنّ «خطة عمل لمكافحة الرجعيّة» أُعدّت قبل أقل من شهرين في قيادة الجيش
أرنست خوري
ظنّ الأتراك، ومعهم جميع من يتابع ما يحصل في بلدهم، أنّ صفحة الانقلابات العسكرية في تركيا طويَت منذ «اتفاق» المؤسسة العسكرية والطبقة السياسية على رفع الغطاء عن عصابات «إرغينيكون» و«إنهائها»، وهي التي كانت مكلّفة تنفيذ المهمات القذرة بحق «أعداء الجمهورية» من إسلاميين وشيوعيين وأكراد. أقنعت الحملة القضائية الحاسمة التي بدأت قبل عامين، الجميع، بأنّ الحكومات التي لا ولن تسير على موجة واحدة مع الجيش، لن تكون عرضة لانقلابات سهلة. لكنّ الطمأنينة تبدّدت سريعاً. يوم الجمعة الماضي، خرجت صحيفة «طرف» (اليسارية غير المتزمّتة علمانياً) بصفحة أولى فجّرت مفاجأة: وثيقة سرية أعدّتها قيادة الجيش مباشرة هذه المرة، لا عبر «إرغينيكون»، لـ«انقلاب شامل»، لا يستهدف حصراً حكومة رجب طيب أردوغان الإسلامية، بل «الإجهاز الكامل والنهائي» على كل من حزب «العدالة والتنمية» ومؤسسات «جمعية فتح الله غولن»، أبرز وجه إسلامي معتدل في تاريخ تركيا. مشروع شامل وردت تفاصيله تحت عنوان «خطة عمل لمكافحة الرجعيّة».
وبحسب المعلومات، فإنّ الخطّة أعدَّها في نيسان الماضي قسم العمليات في قيادة الجيش التركي ممثلاً بالعقيد دورسون جيجيك وحوّلها إلى قيادة الأركان، وعُثر عليها في مكتب سردار أوتورك، وهو محامي معظم الجنرالات والضباط المتهمين بالتورّط بعصابات «إرغينيكون».
وبحسب «طرف»، فإنّ «الخطّة» تعدّد لائحة بـ«ممارسات حكوميّة هدفت إلى النيل من سمعة الجيش». أبرز عناوين هذه الممارسات فتح ملف «إرغينيكون» والسعي لإنشاء دولة إسلامية في تركيا، وعمل منظّمات فتح الله غولن على السيطرة على المؤسسات الحكومية وتسليح مناصريها.
استفاق الأتراك يوم السبت على قرار من القضاء يمنع نشر أيّ من تفاصيل الوثيقة العسكرية، واكتفت صحف ذلك اليوم، بشقيها العلماني والإسلامي، بنقل الخبر على صفحاتها الأولى من دون اتخاذ موقف منه. هدوء لم يطل وكسره الجميع، بدءاً بأردوغان الذي قال، أول من أمس، إنّ حكومته تتابع الأمر عن كثب «وسترفع قضية إذا اقتضت الحاجة». أداة الشرط «إذا» غابت عن تعليق غولن الذي يعيش في منفاه الاختياري الأميركي، إذ تعامل مع الخبر الصحافي على أنه حقيقة، فرأى أنّ هذه «الخطة الانقلابية، ليست ولن تكون الأولى من نوعها، وهي تستهدف الأمة بكاملها». لكن أردوغان نفسه مرّر من قناة هدوئه المعتاد، رسائل معبّرة للجيش عندما لوّح بأنّ حكومته «لن تقف متفرّجة على المؤامرات التي تحاك ضدّها»، متعهّداً باتخاذ ما يجدر اتخاذه لـ«حماية الديموقراطية وبثّ الحياة فيها». وبدا أنّ أردوغان مقتنع برواية «طرف»، فأشار إلى أنّ «أعداء الديموقراطية» لجأوا إلى جميع الوسائل، «من المافيات إلى العصابات الإجرامية وإثارة الفوضى والتهديدات».
ويوم أمس، صدر بيان عن الجيش، عدّته صحف الموالاة بمثابة لا نفي ولا تأكيد لوجود «الخطّة». فقد تضمّن البيان «الملتبس» والمقتضب ما يشبه تبرئة قيادة الجيش حصراً من تهمة التحضير للانقلاب الكبير. وجاء فيه: «بعد التحقيقات، تبيّن لنا أنّ أيّاً من وحدات قيادة الجيش لم تعدّ خطة للانقلاب على الحكومة». وجزم بأنّ الجيش «لا يمكنه احتضان أي شخص أفكاره وسلوكه مناقضان للديموقراطية ولدولة القانون»، متعهّداً بأنه إذا كانت الوثيقة «صحيحة، فسيُحاكَم المسؤولون من طريق القضاء».
بيان عنونته صحيفة «توداي زمان»، المقربة من «العدالة والتنمية»، بـ«قيادة الجيش لا تنفي خطة الانقلاب». ولم يلقَ توضيح الجيش أيّ استحسان في أوساط الحزب الحاكم، إذ رأى نائب رئيس الكتلة البرلمانية للحزب، بكير بوزداغ، أنّه «كان يجدر بالبيان الاعتراف بوجود المخطط الانقلابي أو نفيه بوضوح، وهو ما لم يفعله». وتوقّف بوزداغ عند «الصمت الغريب للجيش طوال 4 أيام».
ومن أكثر ما يلفت الانتباه في القضية، هو التضامن الأول من نوعه الذي أعربت عنه صحف المعارضة «إذا تبيّن أن الوثيقة صحيحة». حتى إنّ أسماءً بارزة في صحف العلمانيين المتشددين، وفي مقدمتهم رئيسا تحرير «ملييت» و«حرييت»، سدات إرغن وإرتوغرول أوزكوك، حثّا القضاء على إنهاء هذه القضية سريعاً لمحاكمة من خطّط للانقلاب، أو من لفّق الخبر. وحده حزب المعارضة الأكبر، «الشعب الجمهوري»، على لسان أحد نوابه أحمد أرسن، غرّد خارج السرب، عندما كذّب الخبر وقلب الاتهام ضدّ غولن الذي «سيطر على بيروقراطية الدولة بكاملها، والآن بات يسعى إلى تدمير الجيش»، ليخلص إلى اعتبار أنّ حركة غولن «أخطر من تنظيم القاعدة نفسه».