انسحب الجيش الإندونيسي أخيراً من تيمور الشرقية بعد مقتل نحو 200 ألف شخص، لينال الإقليم استقلاله بالدم. رئيس الجمهورية الحديثة خوسي راموس هورتا يقول إنه يعترض على سعي الأمم المتحدة إلى إنشاء محكمة دولية لمحاسبة الإندونيسيين على فترة القتال. مرة أخرى تدخل العدالة المعترك السياسي في أحد أفقر بلدان العالم
تيمور الشرقية ــ عمر نشابة
«بعض القوى الدولية تسعى إلى تحويل تيمور إلى تجربة قضائية دولية ولن أسمح بذلك. فهل كانت هناك محكمة دولية لفيتنام حيث قتل القصف الجوي الأميركي أكثر من نصف مليون فيتنامي؟». هكذا تساءل رئيس جمهورية تيمور الشرقية، خوسي راموس هورتا، رغم الاشتباه في أن الجيش الإندونيسي قتل، بين عامي 1975 و1999، 200 ألف تيموري، بينهم شقيقاه، فيما لا يزال شقيقان آخران له في عداد المفقودين.

وقال هورتا، أثناء لقائه مجموعة من الناشطين الدوليين في حقوق الإنسان يوم الخميس الماضي، «لا يوجد أي تيموري مهتمّ بالماضي، بل إنها الأمم المتحدة، وخصوصاً بيروقراطية حقوق الإنسان الأممية التي لا تكفّ عن الحديث عن العدالة. أنا مع العدالة لكن العدالة تحقّقت في أننا اليوم أحرار. يجب التعاطي بواقعية مع هذه الأمور. هناك بعض المسؤولين الدوليين المنافقين يحاولون إعطائي دروساً عن العدالة». وتابع بسخرية بأن «الأميركيين والأوستراليين دعما ديكتاتورية سوهارتو في إندونيسيا». وخلص إلى أن «بعض الدول الغربية لا تعرف تعقيدات إدارة بلاد خرجت من صراع دموي».

الطريق إلى الشرق الأقصى

بعد ساعات من التحليق فوق مئات جزر الملاي في أقصى جنوب شرق آسيا، حطّت الطائرة الإندونيسية في ما يشبه مطاراً عسكرياً للأمم المتحدة تنتشر إلى جانبه بعض الآليات المحطّمة من بقايا الحرب في تيمور الشرقية. هي نصف الجزيرة الأوسع بين جزر أقصى الـ «تِمور» (الشرق باللغة الإندونيسية). كما أنه أوّل بلد مُنح عضوية الأمم المتحدة مطلع الألفية الثالثة، وآخر بلد أُعلن استقلاله حتى اليوم. لكن «تيمور لستِ» (بالبرتغالية ـــــ اللغة الرسمية الأولى)، أو «تيمور لوروساي» (بالتَتون ـــــ اللغة الرسمية الثانية)، أو تيمور الشرقية، هي أيضاً أشدّ بلدان آسيا فقراً وحرماناً، إذ لا يتجاوز معدّل الدخل الفردي فيها دولاراً أميركياً ونصف دولار شهرياً.
تمتدّ مساحة هذا البلد المستحدث 15 ألف كيلومتر مربع، وتجاوره باقي جزيرة تيمور التي تكوّن جزءاً من إندونيسيا، أكبر تجمع للمسلمين في العالم. غير أن معظم سكان جزءَي الجزيرة يعتنقون الكاثوليكية، وبالتالي يُستبعد توصيف التوتر الدموي بين البلدين بالطائفي، رغم تعاطف الفاتيكان اللافت مع تيمور الشرقية، الذي تُوِّجَ بزيارة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني للعاصمة ديلي عام 1989، خلال حقبة الاحتلال الإندونيسي.
تكشف جولة في أرجاء ديلي حجم الحرمان الذي يعانيه نحو 350 ألف تيموري يسكنونها. فباستثناء المستوطنات السكنية لموظفي الأمم المتحدة وبعض السفارات والفنادق النادرة المسيّجة بجدران من الحديد والأسلاك الشائكة، تفتقر المدينة إلى البنى التحتية الأساسية. وفي الأزقّة الضيقة بين المساكن المغطّاة بألواح «الزنكو» تطوف المجاري والأوساخ وتنتشر الأمراض.
«الفساد والكسل في تيمور أكثر من أي بلد في العالم»، يقول ضابط في شرطة الأمم المتحدة المكلّفة حماية أمن المطار. ويتابع «هنا لا كهرباء ولا مياه ولا أي حركة إنتاج أو تجارة والسكان لا همّ لهم سوى التسوّل من دول الجوار»، في وقت تبلغ فيه الميزانية السنوية للأمم المتحدة في تيمور الشرقية نحو عشرة ملايين دولار أميركي، منها سبعة مخصّصة لرواتب العسكر والشرطة الأممية.
ويقول الرئيس هورتا شارحاً الوضع الاقتصادي لبلاده «لدينا بعض المال من النفط والغاز، ونحن لا نتلقّى دعماً مالياً من أي جهة دولية، لكن نحصل على مساعدة أجنبية للتنمية تساوي نحو 150 مليون دولار سنوياً، لكن للأسف، معظم تلك الأموال تعود إلى البلاد التي أتت منها، إذ لا يصرف منها في تيمور الشرقية إلا نحو 10 إلى 20 بالمئة. وعندما يقولون إن مليارات صُرفت في تيمور خلال السنوات الأخيرة أقول ربما، لكنني لم أرَ منها شيئاً». ويتابع «نحن نعطي 20 دولاراً أميركياً شهرياً لكل مواطن فوق سنّ السادسة عشرة على أن تُدفع كلّ ستة أشهر، كما أننا نؤمن الطعام لطلاب المدارس، لكن بعض المدارس لا تزال محرومة الماء النظيف».
يُذكر أن دولة الاستقلال لم تكلّف نفسها عناء إطلاق العملة الوطنية بل فضّلت اعتماد الدولار الأميركي رسمياً. ويوضح الرئيس التيموري «قرّرنا اعتماد الدولار. فللبعض العملة الوطنية هي قضية سيادة وفخر، لكن بالنسبة إلي هي مجرّد أوراق».

شيغا!

«إذا اخترتم الاستقلال فعليكم أن تعيدوا بناء بلدكم من لا شيء! قال لنا الجيش الإندونيسي قبل موافقة حكومتهم على إجراء الاستفتاء الشعبي في الجزيرة عام 1999»، هكذا تؤكد إحدى الراهبات في دير ساو باولو في العاصمة ديلي. ومع إعلان النتائج لمصلحة الاستقلال (78.5 بالمئة) والانفصال الكامل عن إندونيسيا، تجاوز عدد الضحايا مئتي ألف تيموري. وخلال العام نفسه، غادر آلاف الإندونيسيّين الجزء الشرقي من الجزيرة، التي انتقلوا إليها بتشجيع من جاكرتا بعد احتلال الجزيرة عام 1975.
لم يغادر العسكر إلا بعد التأكد من انهيار البنى التحتية ومقوّمات الاقتصاد وانتشار مسلحي حليف حكم جاكرتا، التيموري اوريكو غوتيريس، في الجزيرة. واشتعلت حرب دموية لم تهدأ إلا مع وصول طلائع قوات الأمم المتحدة عام 2000.
«شيغا!» (كفى) شعار رفعته لجنة الحقيقة والمصالحة التي أُنشئت في

يرفض الرئيس التحقيق الدولي في مقتل 200 ألف شخص خلال الاحتلال الإندونيسي

لا يتجاوز معدّل الدخل الفردي فيها دولاراً ونصف دولار شهرياً
تيمور الشرقية عام 2001. عقدت اللجنة في مبنى سجن «باليدي» في ديلي جلسات استماع لشهادات مئات الناجين من القتل والجوع والمرض، وخبراء تحدّثوا عن جرائم ضدّ الإنسانية ارتكبها الجيش الإندونيسي في تيمور الشرقية بين 1975 و1999.
«لنترك الماضي في الماضي ولنتطلّع إلى المستقبل معاً»، قال السكرتير الأول في السفارة الإندونيسية في ديلي، نلسون سيمورانغكير، لـ«الأخبار». ورفض الدبلوماسي بلطف شديد الردّ على الاتهامات بارتكاب قوات بلاده جرائم في تيمور الشرقية (أو ما كان يطلق عليه الإندونيسيون «المحافظة الـ27»). وعندما واجهته «الأخبار» بالتقرير الذي نشرته لجنة الحقيقة والمصالحة عام 2005، قال مبتسماً وبصوت منخفض: «تعهّدنا مساعدتهم، وأنشأنا من جهتنا لجنة الحقيقة والصداقة».
لكن مدير مركز لجنة الحقيقة والمصالحة، أغوستينو دي فاسكونسيلوس، وغيره من الهيئات الحكومية وغير الحكومية التمورية، وتعارضاً مع موقف الرئيس هورتا، عبّروا لـ «الأخبار» عن تمسّكهم بمحاسبة كلّ من ارتكب جرائم بحقّ الإنسانية في تيمور الشرقية عبر إنشاء محكمة دولية.
ويقول فاسكونسيلوس «نحن ننتظر تحرّك الأمم المتحدة في هذا الإطار، إذ إن بعض الجرائم وقعت خلال وجود طواقم الامم المتحدة هنا عام 1999. إلا يعني ذلك أنها معنيّة مباشرةً بالأمر؟».
ويفسّر الرئيس هورتا عدم رغبته في المحكمة الدولية بالقول «انظروا إلى جنوب أفريقيا. لم يدعُ نلسون منديلا إلى محكمة دولية، أليس كذلك؟».

كوبا تمدّ يدها

في منطقة مجاورة لمقر لجنة الحقيقة والمصالحة يقع المستشفى الوطني التيموري الشرقي، الذي بناه الإندونيسيون عام 1984. «غادر الأطباء الإندونيسيون المستشفى عام 1999 تاركين المرضى والممرضين والممرضات المحليين وحدهم»، قال مدير قسم الموارد البشرية في المستشفى جيكارياس نايبوتي لـ «الأخبار». وأضاف «لكن بقي المستشفى، بينما دمّر الإندونيسيون كلّ شيء».
نايبوتي، الذي كان قد تابع دراسة الصحة العامة في جامعة جاكرتا، يشتكي نقص الأطباء والممرضين في المستشفى. «لولا الأطباء الكوبيّون الذين وصل عددهم إلى 200 في تيمور الشرقية، الذين أرسلتهم حكومتهم لنصرتنا، لانهارت خدمات المستشفى بالكامل».
هنا لا جراحين محليين متخصصين، ولا أطباء متخصّصين بجراحة الأنف والأذن والحنجرة والأمراض الرئوية، هؤلاء أتوا بمعظمهم من الجزيرة الكاريبية الثورية ومن الصين الشعبية. التيموريون بحاجة ماسة إليهم، إذ تنتشر المالاريا والتوبيركولوز والالتهابات في مختلف أنحاء الجسم بسبب المجاري التي تنتشر في الأزقّة بين البيوت وفي منطقة استوائية ترتفع فيها نسبة الرطوبة.
المساعدة الطبية الكوبية لا تقتصر على إرسال الأطباء إلى تيمور الشرقية، بل تشمل أيضاً إرسال مئات الطلاب التيموريين إلى كوبا للالتحاق بكليات الطبّ. قالت الدكتورة مايرا، الطبيبة الكوبية في المستشفى الوطني في ديلي لـ «الأخبار»، «بلغ عدد الطلاب التموريين في كوبا نحو 700 هذا العام، ونحن متفائلون بمستقبل هذا البلد، وبتطوّر الخدمات الطبية هنا».


الدعم الأميركي تحوّل احتلالاً


200 ألف ضحية وانهيار شبه كامل لمقوّمات الحياة، ثمن دفعه سكان التِمتِم (كما كانت تطلق الحكومة الإندونيسية على الجزيرة قبل الاستقلال) لتجرّؤهم على رفع شعار السيادة على أرضهم عبر الانضمام إلى ثوار الـ«فريتلين» (الجبهة الثورية لاستقلال تيمور الشرقية) اليساريين المدعومين من الصين الشعبية بعد تراجع الاستعمار البرتغالي لشرق الجزيرة منتصف سبعينيات القرن الماضي.
الولايات المتحدة، المنهزمة بوجه الفييتكونغ في فييتنام، دعمت حينها اجتياح حلفائها الإندونسيّين تيمور الشرقية عسكرياً خشية تحوّلها إلى المعسكر الاشتراكي. ويجزم هؤلاء أن «استقلال» تيمور ما كان ليحصل لولا تراجع توسّع المعسكر الاشتراكي بعد انفتاح الصين على الغرب، وانهيار الاتحاد السوفياتي.