5 انتخابات خلال 4 أشهر تحسم صمود اليساربول الأشقر
هل انتهت الموجة اليسارية التي ملأت صناديق الاقتراع في أميركا اللاتينية؟ وهل دقت ساعة الردّة اليمينية؟ قبل التكهن، لا بد من عودة سريعة إلى الظروف السياسية والاقتصادية التي أنتجت هذا التغيير. لهذه القصة رافعتان: الأولى هي عسكرة الأنظمة اليمينية في جنوب القارة من أواسط السبعينات ـــــ الباراغواي منذ الخمسينات، والبرازيل في الستينات ـــــ حتى أواسط الثمانيات، حيث تراجعت بعد انتفاء الحاجة وبانتظام، إلّا ربما الأرجنتين بسبب الهزيمة في حرب المالفيناس مع بريطانيا. أما الرافعة الأخرى، فهي الهيمنة الأحادية لمفاهيم «توافق واشنطن» مع نهاية الثمانينات، وفرضها على اقتصادات المنطقة (اقتصاد التبادل الحر)، وفي هذا المجال مثّلت التشيلي نوعاً من المختبر، إذ وضعت هذه الأفكار حيّز التنفيذ حتى قبل أن تتبلور في ما يعرف بالنيوليبرالية.
في أواسط التسعينات، الأزمة المكسيكية، وبعد قليل العاصفة الأرجنتينية التي هدَّأَت من «حماسة» النيوليبراليّين، الذين كان لهم الأثر الأكبر في القضاء على الأحزاب التقليدية، أكثر من الديكتاتورية العسكرية. عموماً، هناك نموذجان من الانتظام الحزبي في أميركا اللاتينية: النموذج الأول الثنائية الحزبية، الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، مثلاً في الأوروغواي كان بين حزب الكولورادو أي الحمر، المسمّى أيضاً الليبرالي، وأحياناً الشعبي، وحزب البلانكو أي البيض، المسمّى أحياناً الوطني أو المحافظ (في الأرجنتين هو بين الراديكالية والبيرونة). أحد هذين الحزبين أو الاثنان معاً تصدّرا المرحلة الانتقالية بعد النظام العسكري. وقصة اليسار في هذه الدول تتلخّص في فرض وجوده بدايةً كقوة ثالثة، والتحوّل تدريجياً إلى قطب ثانٍ مع زيادة الصعوبات الاجتماعية أو تقارب البرامج الاقتصادية للأحزاب التقليدية حتى الوصول إلى السلطة بحكم التداول. هي صدفة الزمان التي جعلت زعماء هذا اليسار هم أنفسهم الشبان الذين تمرّدوا على الأنظمة العسكرية.
النموذج الثاني هو ما يسمى في الإكوادور الـ «حزبوقراطية»، وهي أنظمة تكون فيها السلطة التنفيذية ضعيفة، وتتحكم فيها أحزاب تتقاسم الدولة، فيما شرائح واسعة تبقى مهمّشة عن الحياة السياسية. في هذه الحالة التي تشمل مجتمعات أفقر من مجتمعات النموذج الأول، أدت الوصفات النيوليبرالية، التي شيّدت على أكتاف الفقراء، إلى بروز لاعبين جدد من خارج النظام، وانهيار النظام الحزبي بأكمله، ولجوء الحركة الاجتماعية إلى صيغة الجمعية التأسيسية من أجل صياغة دستور جديد. بالتأكيد، الخط ليس بيانياً بين النموذجين، فالبرازيل مثلاً لها الكثير من مكوّنات الحزبوقراطية، فيما ديموقراطيتها تداولية، وفي فنزويلا كان النظام الحزبي ثنائياً من دون أن يمنع ذلك تشافيز من تدشين ظاهرة الدساتير التأسيسية.
وفي الأشهر الأربعة المقبلة، سيتبدّل الرئيس في ثلاث دول من أميركا الجنوبية، وفي دولتين من أميركا الوسطى. في الأوروغواي غداً، وفي التشيلي في كانون الأول، نحن أمام حالتين متميّزتين من النموذج الأول مع أن الرئيسين اليساريين خارجان من السلطة، وهما أكثر شعبيةً من لحظة دخولهما.
في الأوروغواي، وصلت «الجبهة العريضة» اليسارية إلى السلطة عام 2005 للمرة الأولى بعد 150 سنة من تداول حزبي «بلانكو» و«كولورادو»، وفق ترسّخ سبق الانقلاب العسكري، ونموّ تدريجي ودائم تلاه في أصغر بلد في أميركا الجنوبية. حظوظ اليسار ـــــ الذي رشّح زعيماً سابقاً لمنظمة توباماروس خوسي «بيبي» موخيكا ـــــ مرتفعة للفوز حتى من الدورة الأولى بالرغم من قوة خصمه، وهو آخر رئيس «بلانكو» للجمهورية، لويس ألبرتو لاكليي.
لكن الوضع أصعب في التشيلي، حيث تأكّد أن الاستحقاق لن يحسم من الدورة الأولى. و«التشاور»، المؤلّف من الحزب الديموقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي، الذي يحكم البلد منذ فشل أوغستو بينوشيه في استفتاء عام 1988، بدأ يشيخ، بعدما تداول ممثّلوه في السلطة رئيسين من الديموقراطي المسيحي، تلاهما رئيسان من الاشتراكي. رشّح هذه المرة «التشاور» رئيساً سابقاً آتياً من الديموقراطي المسيحي، الرئيس السابق إدواردو فري، ولكن حظوظ «الائتلاف»، الذي هو الوريث الشرعي لنظام بينوشيه، جدية هذه المرة لدرجة أن مرشحه ـــــ من أغنى رجالات التشيلي سباستيان بينييرا ـــــ هو الذي يرمز إلى الحداثة. المثل الثالث هو بوليفيا ـــــ أيضاً في كانون الأول ـــــ التي تنتمي دون شك إلى النموذج الثاني: أدت النضالات المعادية للنيوليبرالية إلى بروز لاعبين جدد كالهنود، الذين يمثّلون الأكثرية المطلقة من السكان في بوليفيا، وإلى انهيار «الحزبوقراطية». إيفو موراليس، الرئيس الحالي، هو نموذج حيّ لهؤلاء اللاعبين الجدد ولنضالاتهم وأحزابهم. في أول انتخابات وفق الدستور الجديد، فوز موراليس شبه مضمون من الدورة الأولى، فيما المعارضة غير الهندية المترسخة في الولايات الشرقية ـــــ أشهرها سانتا كروز ـــــ تجنح يميناً في بلد فقدت فيه هيمنتها التاريخية.
أما المثلان الأخيران، فيأتيان من أميركا الوسطى: هندوراس في تشرين الثاني، وإذا جرى التوصّل إلى تسوية تشرعن الانتخابات، فاليمين عائد بشخص الخاسر قبل أربع سنوات بورفيريو لوبو. وتجربة مانويل زيلايا، الذي انتُخب أصلاً بناءً على برنامج يميني قبل أن يتقارب من تشافيز، قد تساعد وكل ما تلاها على الأقل على ترسيخ بديل يساري في استحقاقات مقبلة. في المقابل في كوستاريكا، الدولة الأكثر تطوراً في أميركا الوسطى، الفوز مرجّح هنا أيضاً لخاسر الانتخابات الأخيرة أوطون سوليس، وبفارق مريح. هذا الرجل الذي انشقّ عن أحد الحزبين التقليديين نجح في تكتيل اليسار حول معارضة اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة.


باقٍ أم ذاهب؟ أما الدول التي تقبل بالولايتين، فهي إمّا الدول التي عدّلت الدستور لهذه الغاية (الأرجنتين ولاية كارلوس منعم، والبرازيل مع فرناندو هنريكي كاردوزو) أو تلك التي وضعت دستوراً جديداً حيث أصبحت القاعدة على ما يبدو الولايتيين: فنزويلا عام 2000 والإكوادور عام 2008 وبوليفا عام 2009. وفي وقت تنازل فيه إيفو موراليس عن الولاية الثانية (الثالثة في الواقع لأن الأولى سبقت الدستور الجديد)، عدّل هوغو تشافيز الدستور بواسطة استفتاء عام 2008 أزال منه أي عائق قانوني أمام إعادة الترشح من دون حدود.