يلتئم مؤتمر لندن اليوم لبحث الاستراتيجية الأفغانية الجديدة. عناوين الانسحاب أو تسليم الأمن البرّاقة لن تنجح في حرف الأنظار عمّا يبدو أنه الهدف الأساس للاجتماع، وهو محاولة استمالة حركة «طالبان» إلى العملية السياسيّة، بعدما فشل العسكر في منع تهديداتها؛ استمالة بالمال والوظائف، وربما المناصب السياسية، لتعود إلى الحكم من الباب الموارب
مي صايغ
تستضيف العاصمة البريطانيّة لندن، اليوم، مؤتمراً دولياً عن أفغانستان. مؤتمر من المتوقع أن يضع إطاراً سياسياً شاملاً للدولة التي تمزقها الحرب، وآخر زمنياً لتسليم المهمات العسكرية من قوات حلف شمالي الأطلسي إلى القوات الأفغانية اعتباراً من العام المقبل.
المؤتمر، الذي سيشارك فيه ممثّلون عن أكثر من 60 بلداً و7 منظمات دولية ومختلف الأطراف المشاركين في الحرب في أفغانستان ما عدا «طالبان»، سيكون أول ظهور للرئيس الأفغاني حميد قرضاي على الساحة الغربية منذ إعادة انتخابه، في انتخابات شابتها عمليات تزوير فاضحة.
ووفق وسائل الإعلام البريطانية، سينصّ مشروع قرار البيان الختامي لمؤتمر لندن على تسليم الملف الأمني في أفغانستان من قوات «إيساف» التابعة لحلف الأطلسي إلى القوات المسلحة الأفغانية بحلول عام 2011.
ويرجّح ألا تتولى القوات الأفغانية أمن المناطق الأكثر استقراراً قبل بداية عام 2011، وأنّ القوات الدولية قد تضطر إلى البقاء 5 أعوام إضافية للتصدي لمتمردي «طالبان»، الأمر الذي يناقض توقعات الانسحاب الشامل للقوات الأميركية اعتباراً من تموز 2011، فيما شددت الحكومة البريطانية على أنّ انسحاب القوات الدولية «سيجري وفق الظروف الميدانية، لا وفق جدول زمني يحدد مسبقاً».
قرضاي يريد حواراً مع قادة «طالبان» وواشنطن لن تنفتح سوى على المستويات الدنيا
وإلى جانب مسألة نقل عدد من الأقاليم إلى السلطة الأمنية الأفغانية، فإن مؤتمر لندن يتميّز بتزامنه مع وصول 30000 جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان مع حلول الصيف المقبل، ليصل عدد القوات الدولية في أفغانستان إلى 130 ألف جندي، فيما سيحاول رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون إقناع دول أخرى بإرسال5000 جندي إضافي لقتال «طالبان» وتدريب القوات الأفغانية.
محاولة قد لا تنجح في ظل إعلان دول الأطلسي عدم نيّتها زيادة عديد قواتها. فباريس أعلنت صراحة رفض إرسال أي قوّات مقاتلة للالتحاق بالوحدات الفرنسية المنتشرة على الساحة الأفغانية، والبالغ عددها 3750 جندياً. وأشار الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى أنه «إذا كانت هناك حاجة لمزيد من الأشخاص للتدريب ومساعدة الشرطة على القيام بأعمال هندسية مدنية ومساعدة السكان والمساعدة في عملية الأفغنة، فلمَ لا نساعد في ذلك..؟ لكن إرسال قوات مقاتلة.. لا».
أما من ناحية برلين، وهي ثالث أكبر مساهم في قوات قوامها 4400 جندي في أفغانستان، فإنّ الأمور ليست أقل تعقيداً، إذ فضّلت المستشارة أنجيلا ميركل الانتظار إلى ما بعد مؤتمر لندن لحسم قرارها بزيادة عدد قواتها في أفغانستان، مكتفيةً بإبداء استعدادها للقيام بمهمات تدريب إضافية للشرطة، فيما تحدثت صحيفة «راينيش بوست» نقلاً عن مصادر حكومية عن توجه برلين نحو إرسال 500 جندي إلى أفغانستان.
وخلافاً لنظرائها في الاتحاد، دعت روما الأوروبيين إلى زيادة التزاماتهم بإرسال قوات. ولفت وزير الخارجية الإيطالي فرانكو فراتيني إلى أنه «يتعيّن تقديم الكثير الكثير فعلاً، كما تفعل روما»، مشيراً إلى أنه سيكون هناك إسهام إيطالي، لكن «ليس هذا وقت الحديث عن العدد».
أمّا النقطة الأكثر إثارة في مشروع بيان لندن، فهي مشروع المصالحة الوطنية الذي سبق أن أعلنه قرضاي، والذي يتضمن المطالبة بشطب أسماء من مسلّحي «طالبان» من قائمة العقوبات التي تصدرها الأمم المتحدة. ويرمي المشروع إلى إقناع مؤيّدي حركة «طالبان» بإلقاء أسلحتهم، والتزام أفغانستان بإنشاء هيئة «للتواصل مع المتمردين»، «على أن يموّل المجتمع الدولي برنامج إعادة الاندماج، بضخّ مزيد من مساعداته من خلال الحكومة الأفغانية، مقابل إعفاء كابول من الديون».
برنامج إعادة اندماج مدته 5 سنوات تبدأ من العام الحالي، ويتضمن إنفاق المبالغ التي ستُحصّل من الدول المانحة للتدريب على الوظائف، وتوفير سبل العيش لمقاتلي الحركة أثناء انتقالهم إلى الحياة المدنية، إضافة إلى بناء وتحسين المنشآت العامة للقبائل والقرى التي تتعاون مع هذا البرنامج.
غيّر أنّ مشروع المصالحة الوطنية دونه عقبات، أبرزها وجود اختلاف كبير بين رؤية قرضاي للحوار ورؤية المجتمع الدولي والولايات المتحدة، وفق ما ذهب إليه الباحث في الشؤون الأفغانية محمد فايز فرحات، كاشفاً عن أنّ «الرئيس الأفغاني يرى أن هذا الحوار يمكن أن يشمل زعيم حركة طالبان الملا عمر وأعضاء مجلس شورى الحركة، فيما تتحدث واشنطن عن قوائم سوداء، مستبعدة الحوار مع هذا الجناح، لكونه الأقرب إلى تنظيم القاعدة».
ولفت فرحات إلى أنّ الولايات المتحدة تتحدث عن «استمالة ولا تتحدث عن حوار حقيقي. الحوار الحقيقي ينصرف إلى جلوس إلى مائدة المفاوضات مع ممثلين حقيقيين لحركة طالبان»، مشيراً إلى أنّ الولايات المتحدة تتحدث عن «شراء ذمم للعناصر الهامشية داخل الحركة، أو بمعنى آخر الكوادر القتالية والصف الثاني والثالث، إلى غيره من الصفوف الدنيا داخل حركة طالبان»، مستبعدةً الصف الأساسي، المسؤول عن التماسك الإيديولوجي وتنظيم العمليات القتالية أو وضع الاستراتيجية العامة للحركة».
وما لم يجلس المعنيون إلى مائدة المفاوضات مع مثل هذا الجناح ويناقشوا القضايا الأساسية مواضيع الخلاف، تشكّك فرحات في أن يكون «هناك حوار حقيقي مع الحركة»، إذ لا يمكن الحديث عن مثل هذا الحوار في أفغانستان، أو دمج الحركة في النظام السياسي بطريقة أو بأخرى، وفق الرؤية التي يطرحها قرضاي.
فالمجتمع الدولي ينطلق من ذهنية الاستيعاب لجناح محدَّد داخل حركة «طالبان»، وهو الجناح الأقل التزاماً بإيديولوجيتها، الذي التحق بالعمل القتالي داخل صفوف الحركة لدوافع غير إيديولوجية تتعلق بالرغبة في المقاومة الوطنية أو في الثأر بسبب الضحايا المدنيين، أو الحصول على المال، أو المراهنة على تغيّر موزاين القوى على الأرض لمصلحة طالبان. وبهذا المعنى، فإن التصور الغربي، وبالأخص الأميركي، هو أقرب إلى «استراتيجية تفكيك الحركة من الداخل منه إلى الحوار معها بالمعنى الدقيق للكلمة»، على حد تعبير فرحات، الذي رأى من المنطقي أن يكون من بين الأدوات والأفكار المطروحة شراء ذمم مقاتلي الحركة اعتماداً على الإغراءات والحوافز المالية.
الحل السياسي في أفغانستان لن يكون ممكناً من دون إشراك الحركة
إغراءات قد تتمكن من استمالة بعض عناصر الحركة، وأن تنجح في مناطق نائية، لكن أن تُستهدف القيادة الأساسية لـ«طالبان»، فهذا «رهان خاسر على المدى الطويل»، من وجهة نظر الكاتب الأفغاني مطيع الله تائب، ولا سيما أنّ الذين يتحكمون في مصير طالبان حالياً لا يقبلون بأي حوار بوجود القوات الأميركية، إلا إذا استطاعت واشنطن ودول أخرى إقليمية كباكستان وبعض دول الخليج وتركيا إقناع طالبان أو احتواء هذا الملف ومحاولة فصل مسار «طالبان» عن «القاعدة». توجه عززته استضافة أنقرة، الثلاثاء، اجتماعاً لجيران أفغانستان لإجراء محادثات يتوقع أن تركز على خطط للتواصل مع مقاتلي طالبان.
وخلص تائب إلى أنّ هناك «إشارات خضراء من قبل قيادات من طالبان ظهرت في بياناتهم بشأن استعدادهم لمرحلة ما بعد المقاومة، التي هي مرحلة الدولة، محاولين أخذ مسافة لهم عن تنظيم القاعدة»، وطارحين أنفسهم كحركة وطنية تسعى إلى تحرير أفغانستان.
وبما أنّ السياسة هي دائماً فن الممكن، فلن يكون من المستبعد أن تتسع طاولات الحوار الغربية في المستقبل القريب للأعداء، بعدما نفد ما في جعبة الأميركيين من أدوات عسكرية وسياسية للقضاء على «طالبان». فرضية ازدادت صدقيتها مع إقرار قائد القوات الأميركية في أفغانستان، ستانلي مكريستال، بشكوكه في جدوى الحرب، داعياً حلفاء بلاده إلى تجديد التزامهم باستراتيجيته في مؤتمر لندن، كي يُتوصّل إلى سلام يُتفاوض عليه مع حركة «طالبان». فباستخدام التعزيزات الأمنية لخلق محور أمني يمتد من معاقل طالبان في الجنوب إلى العاصمة كابول، يهدف ماكريستال إلى إضعاف «التمرد» لدرجة يقبل فيها قادته بتسوية مع الحكومة الأفغانية.
وفي انتظار ذلك، فإنّ الاستراتيجية التي تقضي بتسليم القوات الأفغانية مسؤولية الأمن ستكون مجرد سراب، لأن «طالبان»، بعد نحو 10 سنوات من الاحتلال الأميركي، لا تزال قادرة على الوصول الى القصر الرئاسي، وبـ20 مقاتلاً، وكل ما يجري العمل عليه من مؤسسات أمنية جديدة، من دون مشاركتها، هو رهان في غير محله. فالعملية التي نفذتها الحركة في 18 الشهر الجاري لا تهدف إلى احتلال مواقع، بل أرادت من خلالها توجيه رسائل استباقية للمؤتمرين في لندن، مفادها أنّ الحل السياسي في أفغانستان لن يكون ممكناً من دون إشراك «طالبان» وحلفائها في الحل.


الأمم المتحدة تمهّد
نيويورك ــ نزار عبّود