إسراء عبد الرازق

كلّ إنسان مُعرّض في رحلة تشكّله لخسارة ذاته ولخسارة الآخرين. في لحظةٍ ما، نواجه أسئلة تفتح لنا عوالم مجهولة. «الآخر» هو أحد تلك الأسئلة التي يقوم عليها كلّ وجودنا الإنساني. إنه صديقنا، رفيق رحلتنا، والعالم الكبير الذي نعبر بفضله وعبره إلى الحياة، نبحث عنه في الأدب والموسيقى إن لم نجده في الواقع، وأحياناً نصنعه في خيالنا. في سعينا إلى لقاء حقيقي مع الآخر، نتصارع مع الكثير من المصاعب، تنتهي أحياناً بطرد الآخر من داخلنا، وقطع صلتنا به. ليس بالضرورة أن يكون قرارنا واعياً، بل تسوية لا واعية بديلة من العجز عن إقامة أي صلة حقيقية معه. ربما لا نرصد ذلك الشرخ، إلا في وقت متأخر من حياتنا، لأن علاقتنا بالآخرين محكومة بما يتجاوزنا، بفضلها نتواجه مع ذواتنا أيضاً.
إنها رحلة وعي وكفاح مستمرين بطول الحياة. ولأننا بهذا البحث، نسعى إلى أصالة ما، تخلق نمط عيش يقرِّبنا من الحياة، نلمس به الوعد بالوجود، الوعود لا تأتي فقط من داخلنا، بل من داخل التراث الإنسانيّ بأكمله. ثمة جروح تحتاج إلى يدٍ غير أيدينا، والى ذاكرةٍ غير ذاكرتنا، إلى عين رقيقة تنبض بالمحبة والسلوان.

نظام الحقيقة
في كتابها «الذات تصف نفسها» تشير جوديت بتلر إلى أنّ نظاماً للحقيقة، وفق فوكو، هو ما يؤمن الشروط التي تجعل إدراك الذات مُمكناً. إذ إن ما أستطيع أن أكونه - بالنسبة إلى الآخر يتقيّد مُسبقاً بنظام للحقيقة، حقيقة أُدرِك بها ذاتي بوصفي ذاتاً، وأقدم لها وصفاً كما أدرِك بها الآخر. وبهذا السياق يتضمن البحث في الفلسفة الأخلاقية أسئلة عدّة: كيف أستطيع «أن أكون» في وجود الآخر؟ هل صياغة هويتي وكينونتي تتعارض مع صياغة كينونة الآخر؟ لماذا أتكبد عناء الرغبة في منح أو الحصول على الاعتراف من الآخر؟ كيف يمكن فهم هذه الرغبة؟ وهل من الوارد «أن أوجد» خارج كلّ إطار ممكن يحكم علاقتي بالآخر؟ وإذا أمكن ذلك، فما هو مصير تلك الذات بلا وجود آخر؟ من هذا المنطلق، يمكننا مقاربة عملين أدبيّين يجسدان هذا الصراع بين الذات والآخر.


في روايته «النفق» يسرد إرنستو ساباتو جريمة قتل الرسام «خوان بابلو كاستيل» لحبيبته الذي ينتهي بالسجن. بعد أن وجد المرأة الوحيدة التي فهمته، والتي لمحها تُحدِّق إلى أحد لوحاته بعمق لمشهد امرأة تنظر إلى البحر من نافذة حجرتها. «كاستيل» كان يبحث عبر فنه عن «نظرة» حقيقية إلى لوحاته باعتبارها عالمه ليس منتجه، نظرة إلى داخله يخاطب بها الآخر الذي يرغب بشدّه في تواصلٍ أصيلٍ معه. في نفس السياق، من زنزانته يُقدِّم ماكس فريش بطل روايته «شتيلر» نحات مُتهَم بالقتل. يسرد قصة حياته من أحد السجون كأنه شخص آخر، وهذه تكون بشكلٍ ما جريمته؛ عدم اعترافه بذاته، بمعنى ما قتلها. في السرد الروائي نُلاحِظ أن كلّاً منهما تحرّكهما رغبة عنيفة في التواصل الحقيقي مع الآخر لكنهما - بنفس العنف - يقطعان كلّ طريق ممكن لحدوث هذا التواصل، وينتهي بهما الأمر إلى الوجود في السجن. وإن كان شكل انقطاع التواصل مُختلفاً، فالأول قتل حبيبته تعبيراً عن قتله لذاته، والثاني قتل ذاته تعبيراً عن قتله لزوجته، غير أن كليهما في تضحيتهما بالآخر، كان لا بد أن يتورّطا، بشكل أو بآخر في قتل ذواتهما.

هويّات جريحة
«ثمة بكاء لا يصاحب الهويّة الجريحة إلى النهاية، ففي لحظة ما ينتحر الحبّ ويتحوّل إلى كراهية متوحدة» - غنار سكيريك، «تاريخ الفكر الغربي من اليونان القديمة حتى القرن العشرين»، (ترجمة فتحي مسكيني).
في علاقتنا مع الآخر، يمكن القول إن الهوية الذاتية في أحد أطوارها تقوم على فعل «القتل». يقوم تأكيد الذات بشكل ما على نفي الآخر الذي تقوم عليه كينونتنا، وهو نفسه من تخاطبنا نظرته بمطلب أخلاقي وتورّطنا في مسؤولية معه. فالنظرة، وفق ليفناس، تفرض علينا حدوداً ما، تعرِّفنا على فرديتنا، وهي بذلك تردّنا إلى ذواتنا مرة أخرى. ومن هذه الحدود يحدث الاستبدال، وهي عاطفة تغمرنا، يتم فيها حصار الأنا بالآخر، ويحلّ محلها. إنها نوع من «الغيريّة»، وهي بالتالي نوع من الانتهاك - الإحلال، الذي ينشأ نتيجة لاستجابة ما، ذلك بسبب وقوعنا تحت تأثير مخاطبة لا إرادية للآخر. على أثر تلك العاطفة، تحدث صدمة عنيفة وتوتر يأتي على شكل اتهام واضطهاد. تشعر أن الآخر يضطهدك، يستأثرك، تهمته أنه «هزّك داخليّاً». أنت لا ترغب في ذلك: أن تحسّ وتنفعل وتتأثر؛ لأن هذا حتماً يورّطك. يورّطك عاطفياً، وجدانياً، ومعرفياً، بكلّ الطرق الممكنة. يورّطك فيه وفي ذاتك، يختبرك، ويشغلك أيضاً بأسئلة من الصعب أن تجيب عنها مثل: من أنت؟ لماذا سرقت وجهي؟ أو أرجوك لا تجرحني. كل وجه يخاطبك إذ هو يتهمك ويورّطك في مسؤولية أخلاقية معه ومع ذاتك وأن «ترى وجهاً هو أن تسمع بالفعل نداءً: لا تقتلني» وفق ليفناس. من هذا التورّط ينشأ سوء الفهم، وصعوبة التواصل، والامتثال أمام «نظام الحقيقة»، وضرورة الحاجة إلى الوعي الذاتي لنقد الذات، وتحديد موقفنا من الآخر، ومسؤوليتنا الأخلاقيّة معه. وهي مهمة ليست بسيطة. إنها إبداعيّة بقدر ما تُضيء الذات من أعماق الجهل والخوف لتنطلق في رحلتها نحو الآخرين، واعية برغبتها، ومستعدة للحياة حتى لو كان الثمن نفسه خسارتها لذاتها.

فقدان الآخر والموت
نظرة الغير أو نظرة الآخر هي ما تعرّي حقيقتنا، وتسجننا، وتشعرنا بالخجل جرّاء أحكامه وتصوراته عنّا. نظرة الآخر هي مرآتنا التي نرى عبرها جزءاً من حقيقتنا، وإذا كنّا في نظره غرضاً أو «شيئاً» فهذا ما يسميه سارتر بالجحيم. هذه النظرة جعلت «شتيلر» يدخل في صراع مع زوجته حول الكينونة، إذ لا تقوم علاقة شتيلر بأن «يكون» إلا عبر «قتل» ما «تكونه» زوجته «يوليكا». الخذلان الذي منحه لزوجته كان وليد خذلانه لذاته، في عدم تأكيده لهويّة ما، وبخذلانها، تتأكد هويته، بالقتل تحديداً. وبهروب «شتيلر» من سقطاته في علاقاته بالآخرين إخفاق في «نظام الحقيقة»؛ من هذا الإخفاق، اندثرت ذاته، وفقد إحساسه بهويته. الفقدان هنا أيضاً تعبير عن الضمير المثقل بالذنب بالمعنى النيتشوي: عند اشتداد قوّة الألم والموت، تزيح الأنا الضمير لتعلن موت الآخر الكامن في الوعي، لأن وجوده صار يسبّب موتي، وقوة الحياة تريد أن تتسرّب من داخلي لتمنحني فرصة للنجاة، فإما أنا أو هو. وما حدث - على النقيض من غريزة الحياة - رفعت ذات «شتيلر» الراية البيضاء. فموته الرمزي كان مرهوناً بموت كلّ الآخرين الذين يعيشون داخله، وحتماً هذا ما لم يقدر عليه. رغم تخلّيه الظاهري عنهم، كان فقدانه لذاته، أكبر دليل عن استحالة فقده لمن أحبهم.
فيما أنهى «كاستيل» قصته من زنزانة السجن قائلاً: « وشعرت بأن كهفاً قاتماً أخذ يكبر في أعماقي» فهو شعر بأن السجن فرصة ليرسم كثيراً من اللوحات، حتى يُسيء فهمها الآخرين. من سوء الفهم هذا نمّى الكهف المظلم في أعماقه، ليس سوء الفهم، بل بكل المعاني، من استحالته. على الرغم من حاجته العميقة للتواصل مع حبيبته، سعى بكل كيانه، إلى تأصيل سوء الفهم، وعلى الرغم من بحثه عن الحقيقة، إذ حينما عثر عليها (حبيبته) قتلها، لأن الحقيقة ببساطة لا قيمة لها حينما تنتحر مسبقاً في الوعي، لينتهي قائلاً: «كان هناك في جميع الأحوال، نفق واحد فقط، مظلم، وموحش، هو نفقي أنا، النفق الذي أمضيت فيه طفولتي، وصباي، وعمري كله». وبهذا إعلان كامل عن حقيقة واحدة، وهي انتحار الذات مقابل جرح الأنا، التي تتمزّق من فرط الوحدة المطلقة داخل نفق لا نهاية له، ليس به وجه واحد حقيقي تتطلع إليه. وموت هذا الوجه الحقيقي هو موتٌ في الوعي قبل تجسّده، أي إن انتحار الذات هو أيضاً إقرار بموت الآخر، وإفلاس للإرادة الإنسانية، وإرادة الحياة. فكأن موت الآخر على مستوى الوعي هو الجحيم ذاته، حتى لو حضر الآخر وتجسّد، ستصارع الذات في صياغته، لأنه وعيها به، وعي شبحي، ممزّق، ينتهكها بقدر ما يعدها بالحياة.

ما يجعل اللقاء مع الآخر كفاحاً

إن اعتراف وعي ذاتي آخر بالوعي الذاتي الخاص بي وفق هيغل هو اعتراف بوجودي اعتراف بأني على علاقة مع العالم. وحينما أتّصِل بالآخر أفقد ذاتي لأن فعل الاتصال يتضمن فعل الفقدان في نفس اللحظة. ومن هنا تنشأ قصديّة الرغبة، التي تتجاوزني، رغبتي في الصلة مع الآخر، صلة عميقة حقيقية توثق معرفتي بالعالم وهو «ما يجعل اللقاء مع الآخر كفاحاً» كما تورد جوديث بتلر في كتابها «الحياة النفسية للسلطة، نظريات في الإخضاع». هو كفاح جدير لاتحاد وعيين ذاتيين، وإعادة تكوين صلتهما بنفسهما وبالعالم. مثلما أنّ الآخر واسطة بيني وبين ذاتي، أي إنه ما يقرّبني وما يبعدني عن ذاتي ولذلك أتمنى امتلاكه لأمتلك نفسي، كما أتمنى موته لأرى وأعرف نفسي، لأنه ما يحيل بيني وبينها. ووفق سارتر فإن «الوجود للغير» هو شرط تكوّن وعيي. فوعيي لا يتكون بمعزل عن وعي الآخر. من إدراك تلك الحقيقة: إنني، على مستوى الوعي، لا أتكوّن مستقلة ووحيدة بل تتكوّن داخلي حقيقة الآخر، أي إن الوجود للغير سابق على الكوجيتو الديكارتي. يقول سارتر «إن اللحظة التي يتراءى فيها لنا أنفسنا كموضوع هي ما تجعل الوجود من أجل الآخر مرحلة ضرورية من مراحل تكون الذات، إذ إن طريق الوجود الداخلي يمرّ بالآخر، ما يعني أن شعوري بالآخر هو الذي يجعل الكوجيتو ممكناً». أي إن الكوجيتو القائم على «الأنا- أفكر» لن يكون نقطة بدء لأنها لن تظهر إلا بعد شعوري بفرديتي، وشعوري بفرديتي يقتضي شعوري بالآخر. وبهذا الشعور، شعوري بوجود الآخر، ومن منظور التحليل النفسي، فإنّي أتحرر من نرجسيتي؛ أي من الخطأ الإدراكي الذي تتكوّن به الأنا من الطفولة باعتبار أنها لا اعتمادية ومستقلة، فانتقل- بالمفهوم اللاكاني- من النظام الخيالي (الأنا النرجسية) إلى النظام الرمزي (اللغة) بمعنى أنني أتعرّض لصدمة عنيفة تهز مركزيتي لأُدرِك مدى احتياجي للآخر، وأرتطم بعائق اللغة، فتبدو مهمة خلق لغة مشتركة مع الآخر شاقة للغاية. الوعي بحقيقة صعوبة التواصل هي ما تمنح الكيان البشري مشروعيته، باعتبار أننا لن ننجح بالكامل في الولوج إلى عالم الآخر. وإنها تبدو مهمة قاسية ليس فقط أن نتصل اتصالاً حقيقيّاً بالآخر، بل أن نرتبط به، ونحفظه داخلنا، ونتألم لفقدانه، فهو يمثل حقيقتنا كما فناءنا. وربما ما قاله دولوز يلخّص الكثير من القول: «العويل الكوني الطويل من الحياة: الافتقاد إلى الوجود الذي تعنيه الحياة. عبثاً نقول: ما أتعس الموت، فقد كان يجب أن نعرف كيف نحيا ليكون لدينا ما نفقده. إنه ليس من السهل أن يكون المرء إنساناً حراً، أن يهرب من الطاعون، وينظّم اللقاءات، وينفعل بالبهجة التي تؤكد قوة لا تختزل إلى الكيان العضوي، والفكر قوة لا تختزل إلى الوعي».

بياتريس المثل الأسمى
قدرة الذات على إبداع علاقة مع العالم والآخر تعني، في أحد أعمق جوانبها، الإيمان باستنطاق جماليّة داخليّة وتفعيلها بالاشتراك مع الآخر. هي منحة تعتمل بشكل سريّ وغامض داخلنا، ومن إلهامها اللانهائي تتدفق روافد الخبرة الإنسانية إلينا. إنها تحيلنا إلى بوابة ما. تحيلنا إلى علاقة جديدة مع نفس الواقع بنفس العجز عن فكّ تشفيره. وما تحوِّلنا إليه هو أن ننقّب ونستكشف عوالم الذات الأكثر عمقاً وهشاشة. إنها لا تمنحنا الضوء بقدر ما تجعلنا المصابيح. فمِن رحلة دانتي إلى ذاته العميقة، نتجت واحدة من أعظم القصائد الشعريّة؛ الكوميديا الإلهية. في رحلته إلى الحقيقة، كان لا بد أن يعبر نحو جراح العالم كلها، ويراها. أن يمتلك القدرة على النظر إلى القبح، ليس قبح العالم وحده، إنما قبحه الداخلي أيضاً، ليتحرّر منه كان عليه أن يصير جزءاً منه. « القبح أيضاً لقاء نمط جذري مع أنفسنا، من لا يستقبح نفسه لا يراها؛ لأن القبيح لا يحمل قبحه، بل يسكنه، وهو بمثابة السماء الداخليّة لقلبه» كما جاء في الكوميديا الإلهية. أن يتواجه مع الوحوش والكائنات المرعبة، مع مخاوفه العميقة، غرائزه الوحشيّة، ومع ظلام المصير. تلك القدرة هي الوعي ذاته، لكن دانتي قرر خوض رحلته بمساعدة الملاك العظيم بياتريس، التي كانت دليله في السفر الطويل من أعماق الجحيم، إذ نزلت وتضرّع لڤيرجل أن ينقذه. وبقبولها لتلك المخاطرة، وحتمية الفقدان المصحوبين بالقدرة على الحبّ، ساعدته في الوصول سالماً إلى الفردوس. النزول إلى الجحيم بمعنى ما، هو القدرة على التخلي عن الأنا، أي القدرة على الحبّ، وتفعيل الإيمان بقيم تتجاوزنا، فهو بتطلعه إليها كروح نقيّة تقوده إلى الجنة، تجعل المتعالي، كمثال للمطلق ينطوي على رغبة وإيمان حقيقيين بجماليّة تتحقق بها الروح وتلتئم. وكبطل أسطوري انتقل دانتي من عالم الجحيم إلى عالم النور، وتوهّجت رغبته في المضي نحو ذاته ومواجهتها. بقدر ما نصير هويّات جريحة بفعل حتمية المِحن والمعاناة الوجودية، بقدر ما تتعالى الذات المنحوتة جمالياً لتتجاوز تشوّهاتها، في رحلتها إلى الحقيقة.