يرسم دينيس جونسون في مجموعته القصصية «ابن يسوع» الوجوه الشاحبة للتائهين الغارقين في أزقّة المتاهات المعتمة والدهاليز الباردة الخاوية مثل أرواحهم. يخبرنا قصصاً عن أولاد المصلوب؛ عن المصلوبين جرّاء خطيئة الهشاشة والانكسار، الذين صلبتهم المدن الكبرى ورمت مصائرهم في حاويات القمامة، أبطال قصص الحب الفاشلة والشجارات الساذجة والكئيبة، ضحايا التربية العنيفة وسوط الأهل، عن الغارقين في الإدمان بكل سرياليته، ووطأته، ووخزاته المسنونة كإبر تنقر شرايين الدم. أخبار أولئك الأقل حظاً، الذين لم يستطيعوا تحمّل قساوة العالم وفجاجة أيامه. وجوه لا تعرف النوم من الصحو، تتجول باستمرار تلاحق أشباحها، والعيون جاحظة تكاد تقع من فرط التخدير.
تصميم هاشم رسلان

أبطال جونسون والراوي واحد منهم- الذي لا اسم له سوى لقبه «الأخرق» («فاكهيد»)- لا يربطهم شيء مع الأرض سوى الجاذبية. ولشدّة انفصالهم عن كل قيّد تغدو الهلوسة، والتشتيت، والتبعثر نواميس الذاكرة والكلام والفعل. هكذا، هجروا جميعهم الأرض وقطنوا تحتها، في عالمٍ تعلم دقات قلبهم أبوابه جيداً؛ عالم سفلي دائماً ما تلعب الصدفة ضدّه. لا أحد منهم يأبه للصدفة مثلما لا أحد منهم يكترث لما تحمله الأيام له. الحياة هنا لصيقة بالموت. إن راود أحدهم الحظ في نهاية المطاف، فستجيء ورقة نعوته على شكل رواية، تدوّن لنا سيرته الذاتية الصاخبة بالمأساة والهزل يكتبها «الأخرق»، وفي كل الأحوال، هذا حظ سيئ. ملعونون، مفلسون، مفطورو القلب، مدمنون لا يمكن إصلاحهم، لكنهم في الوقت عينه، يعرفون اسم كل قطرة مطر، ويشعرون بكل شيء يحدث قبل حدوثه. لا نعرف أسماءهم قُلنا لكنهم ليسوا بغرباء. نقرأهم كشخوصٍ بيد أن سيرتهم توحي لنا بأنهم قريبون منّا وعلينا، كالجيران الذين نتسامر معهم على الشرفة، أو كأنهم من هؤلاء الذين سمعنا عنهم في التلفاز، وبتنا نسأل يومياً عن أخبارهم. بين عالم دينيس جونسون وبيننا، كجيل عربي متخبط، قشرة موزة مهترئة. والحال، إن القراءة هنا تبدو كأنها دعس على تلك الموزة ما يؤدي إلى الانزلاق، وبالتالي امحاء الحبل الفاصل، والولوج إلى القالب السردي والتورط فيه، ثم رؤية الجيل العربي، مع وعبر، «أبناء» التضحية (العبثية) والفناء (المجاني) مع ذاك التراجيدي الثقيل.
تطوف الأجيال العربية حول نفسها وتهيم غير عارفة بوجهتها. المنجمون والعلماء متفقون أن الخفوت الحاصل يفيد بإطالة المغيب، وعليه، إن وجهة الطريق شبيهة بوجوه أبطال دينيس جونسون: مجهولة، منزوعة الملامح، وقد تنطفئ في أي لحظة. على هذا النحو يغدو العيش عند أجيالنا العربية أشبه بالسير على درب الجلجلة، بينما كل التفاتة عن هذا المسار تتجلّى في النظر بعيداً، بالأحرى، النظر نحو الرحيل. نتكلم في هذا العدد من «إنّما» عن القعر بلا قاع الذي «يستضيف» الأجيال العربية. عن الأحوال عموماً. وعن أرض الشوك الموجعة التي كلما دعسنا عليها كلما زاد التصاقنا بها مهما اتسع الجرج، وتضاءلت فرصنا بالانزلاق.