إنه عام 2006: مصر تستضيف كأس الأمم الأفريقيّة، في حين بدأت أفتحُ عيناي على كرة القدم. كنت طفلاً في السابعة، ولا أتذكّر سوى أن نانسي عجرم كانت تتشعّب كالسرطان في ذاكرة تلك الفترة. كانت أغنيتها «لو سألتك أنت مصري؟ تقولي إيه» رمزاً وطنياً آنذاك، تُذاع طيلة البطولة لأن الكليب الذي صنعته «شركة موبينيل» لتفرض حضورها على التلفزيون الرسمي للدولة، كان يغازل الرئيس المصري حسني مبارك بتوسطه، في المشهد الأخير، لوحة تضم عظماء مصر عبر تاريخها، وما إن تنتهي تلك الأغنية، حتى يعقبها بعد دقائق إعلانها لمشروب «كوكاكولا» الراعي الرسمي للبطولة.
(تصميم: فرانسوا الدويهي)

لقد ارتبطت هوية «كوكاكولا» بالنسبة إلى أبناء تلك الفترة بنانسي التي رافقتنا في كل موسم إعلاني للمشروب العالمي، كما تصدّرت كل الأحداث الكبرى منذ كأس أفريقيا عام 2006، وكأس العالم في جنوب أفريقيا في عام 2010، وصولاً إلى كأس العالم في عام 2014.
كطفل في ذلك الوقت، لم تثرني شفتا نانسي وهي ترتشف الكوكاكولا، بيد أنني أحببتُ خفة ظلها ورنين ضحكاتها، وحركتها المربّتة برقّة على أنفها الدقيق، وأكثر ما أحببت الحياة التي تبدو خفيفة على نغمات «ما فيني أعيش إلا معك». رأيتها لاحقاً في الفتاة التي أحببتها في مدرستي الابتدائية، وحاولت استمالتها بشرب الكوكاكولا أمامها، إلا أنها لم تكترث.
حين التحقتُ بكليّة الإعلام لدراسة الإعلان، ظهرت نانسي عجرم وكوكاكولا مرة أخرى، فقد كانت المغنّية اللبنانية هي النموذج الأمثل عن «الأيقونة» المغروسة التي حدّثنا عنها الأكاديمي جورج غربنر في نظريته. وفي حين كانت الشركة تستخدمها لاستمالة المستهلك، كان علينا تفكيك ذلك الرمز في مشروعنا، أي بكلمات أخرى، كان عليّ قتل «ربة الأنوثة» لطفولتي. لدى توظيف نظريّة غربنر عن الغرس الثقافي في الإعلان، فإنها تقوم على أساس مبدأ سيكولوجي يُفضي إلى أن الانجذاب الانفعالي وليس الإقناع العقلي هو أساس الإعلان، لذلك وجد المعلنون أهدافهم في أشخاص ذوي سلطة تستميلنا عاطفياً، وتداعب غرائزنا. في عصر الشاشات، حيث تنبت شاشة في كلّ مكان: في التلفزيون والسينما وفي جيب بنطالك، اختارت تلك الشاشات أربابها من النجوم «السلطويين». تلك السلطة التي حلّلها باومان في حداثته السائلة حين وصفها بأنها لا تقدّم نفسها كسلطة مشرِّعة أو واضعة للقواعد أو واعظة أو معلّمة، ولا سلطة تأمر فتُطاع، بل إنها تقدم نفسها كنموذج مُحبّب مبني على الشهرة والعاطفة على السواء، وعلى تموقعها الدائم في محط الإعجاب. فالثراء والشهرة، إن اجتمعا معاً، يصنعان وزن الرسالة وثقلها.
النموذج هو ما يتصدّر المشهد، وهو من يستقطب الناس غالباً. والمشاهير ممّن يملكون رأس مال سلطوي، يُصبح كل ما يقولونه محطّاً للاهتمام حكماً حتى قبل أن يتفوّهوا به، لذلك، بإمكانك إن بحثت عن أكلة الفنان الفلاني المفضلة أن تجدها منشورة في التغطيات الإعلامية المتعلّقة به، سواء في حوار صحافي، أو في إحدى الحلقات مع إسعاد يونس «صاحبة السعادة»، وستجد أن هناك حتماً من يسعد بأن فنانه المحبوب يُفضّل أكلته المفضّلة نفسها.
كانت كوكاكولا في حملتها تسعى إلى التركيز على نانسي، وليس على المنتج الغازي الغامق اللون بحد ذاته، لأنها تمثّل عنصر الاستمالة الذي تحدّث عنه جيل ليبوفتسكي في «شاشة العالم» فيما أسماه زمن الحداثة الثانية. في البداية، تركّز هدف الإعلان على إبراز المزايا الموضوعيّة والنفسيّة للمنتجات، لتصبح بعدها الشاشة بمجملها، مسخّرة لترسيخ آلي أو توجيهي للعلامة التجارية، وهو ما تم استبداله باستراتيجية «النجم» التي تصوغ رسالة تتباهى بمزايا المنتج عبر علاقة تواطؤ تمنح قيمةً لنمط حياة متخيل مبني على العنصر الشبابي، وتعيد إنتاجه في الصورة. باستخدامها للنجوم، ترمز العلامة التجارية إلى التجديد والمفاجأة والتسلية والحلم والتأثير، خالقة أسطورة أو «رول مودل».
للجمال الفائق سُلطته أيضاً في تحديد ذائقتك تجاه علامَتي بيبسي أو كوكاكولا. ففي حملة الأخيرة، تبدو نانسي نجمة أكبر من سواها من النجمات، أكثر جاذبية، فيما يمتلئ إعلانها بمظاهر الرفاهية والإغراء والأنوثة المُفتعلة. وبعكس الطابع الإنساني الذي يظهر لدى النجمات في السينما، تبدو نانسي في إعلان الكوكاكولا شديدة الجلال، حيث تتناسى الكاميرا كلّ ما يبتعد عن إبراز جمالها، لتركّز بتصنّع مبالغ به على الاستعراض الانتشائي الذي تقدّمه. هو الأسلوب نفسه الذي استعارته شاشة الإعلان من هوليوود بصورتها السينمائية الساحرة والمبهرة، في مشهد يحقّق تحالفاً ما بين الجودة الفنية للصورة والحركة، وما بين جمال النجمة وحضورها الذي يصبح الركيزة الوحيدة لنجاح العلامة التجارية.
تبدو نانسي للرجال مربكة وباعثة للانتباه على نحو ما، بوجهها «المريمي» كما أطلق عليه حازم صاغية، مشيراً إلى أنه يثير رغبة الرجال الأربعينيين والخمسينيين لمداعبته، ويثير رغبتهم في قرص ذلك الخدّ المكتنز الذي تركّز عليه كولا في إعلانها. من ناحية أخرى، يصرّ الإعلان على تقديم المغنيّة كأفروديت، وتظهيرها كرمز للكمال الأنثوي.
في ذلك الوقت، جاءت حملات علامة «بيبسي» الإعلانية بالتعاون مع هيفاء وهبي كرد على حملة نانسي وكوكاكولا. كانت بيبسي أكثر فداحة في تسخير سطوة هيفاء وهبي على المخيال الجنسي لدى المتفرّج العربي. لذا بثّت في إعلانها الأول أغنية «بوس الواوا» كخلفيّة له. لا تظهر بيبسي في الإعلان سوى في ثلاثة كادرات فقط، بينما يحتلّ جسد هيفاء وانثناءاته ونظراتها اللامكترثة بالرجال المتساقطين من حولها في لوكيشن التصوير بقيّة الإعلان. هناك لقطة ختامية، تقترب فيها المغنيّة اللبنانية من فم أحد المصورين كما لو أنها تهمّ بتقبيله. وبسبب طريقة التقديم تلك، لن تهرب من الشعور بأن بيبسي هو مشروب طاقة جنسية، لا مُجرّد شراب نحتسيه لنتجشأ ونهضم ما أكلناه.
جمعت «بيبسي» هيفاء مع اللاعب الفرنسي تيري هنري في إعلان آخر. إعلان يقوم على المفارقة الساخرة في الصراع بين الشخصيتين، خصوصاً أن وهبي تحاول فيه أن تفرض سيطرتها بسطوة جمالها. في الواقع، يعبّر هذا الإعلان بالتحديد عن نموذج فرض الذائقة من خلال فنانَي البوب، ولاعبي كرة القدم أيضاً، وهما القطبان الرئيسيّان لتلك الصناعة. فلاعب الكرة ومغني البوب أصبحا النجمين والمثالين في عصر تراجع فيه السياسي والمناضل والمثقّف. هما المعبود الشعبي الجديد الذي تتنافس الشركات الإعلانيّة وبرامج «التوك شو» على التلصّص على حياته الخاصّة، من أجل الوصول إلى ذائقته كنوع الطعام الذي يتناوله، ومشروبه المفضّل الذي يرافقه في رحلته نحو النجاح والتألّق. وعليه، تبدو تلك النماذج ملهمة للطبقات الشعبية من المشاهدين، فلاعب الكرة أو فنان البوب غالباً ما يكون ذو خلفية متواضعة (يستحضرها الإعلام على الدوام) عانت المصاعب قبل أن تصل تلك «المكانة» التي جعلته نجماً يتصدّر الإعلانات وذلك بالاعتماد على اليسير والسهل من المواصفات، كأن تستثمر المغنيّة أنوثتها لا قدرتها الصوتيّة لصناعة نموذجها الجمالي، وأن يركل الرجل الكرة بمهارة. لا تكفّ ثنائية اللاعب/ مغني البوب عن الظهور باستمرار، حتى الآن، حيث يطلّ علينا عمرو دياب ومحمد صلاح كنجمي «بيبسي» بين فينة وأخرى.

ما عزّز سطوة نجوم البوب على ذائقتنا، هو النموذج البارع لقناة MTV الأميركية. تلك القناة التي أنُشئت وقامت على تآكل الفروقات المحليّة والتنوّع، من خلال انتشارها العالمي في كلّ أصقاع الأرض. لقد دعمت هذه القناة بشدّة العلاقات بين الغناء والسلع، فلم يعُد نجوم العالم كمايكل جاكسون أو مادونا وغيرهما يظهرون إلا برفقة علامتي البيبسي أو الكوكاكولا، كأنّهما محفورتين تحت صورهم. تبثُّ قناة الـ MTV، بوصفها مثالاً على شاشات ما بعد الحداثة، الموسيقى والغناء على مدار الساعة: أغانٍ وكليبات قصيرة لا يتجاوز كل منها 5-6 دقائق، تتكرر على مدار اليوم، وتترك مساحة وافرة للإعلانات التجارية سواء داخل الكليبات أو ما بينها. كما أنها تعرض جانباً من كواليس التصوير وحكايات المشاهير الطريفة والغريبة، مرسّخة إيّاهم كصور أكثر منهم شخصيات واقعية، عبر تذويب الحدود بين الذات الحقيقية والصورة المقدمة عنها، ونفخ هذه الصورة لتصبح على هيئة «رول مودل».
سوف تجد حتماً التمظهرات المعولمة لذلك النمط من القنوات في العالم العربي وفي صناعة كليباتنا الغنائية كذلك، وتحديداً في قنوات «مزيكا» أو «روتانا» أو «ميلودي» التي ليست إلا انعكاساً للـMTV. إنها مجرّد نسخ معرّبة عن القناة الأميركيّة، ترسّخ العلاقة ما بين المطرب والسلعة على مدار اليوم، فتجدها تعرض كليب «قول تاني كده» لنانسي عجرم بأجواء تقترب من الإعلانات، حيث يظهر لوغو «نانسي» في الخلفية على شكل لوغو كوكاكولا، ويرتدي العارضون في الكليب التيشيرت الأحمر والبنطلون الأبيض.
يبدو عمرو دياب في شراكته مع بيبسي الممتدة على عشرين عاماً، وتامر حسني في شراكته مع كوكاكولا، صورة معكوسة، الوجه الآخر لكن الذكوري في المرآة لنموذج هيفاء ونانسي. فنحن نرى رجالاً يرمزون إلى التجدّد والشباب، بعضلاتهم المفتولة التي تعطي انطباعاً عن الرجل «الفحل». ومهما تقدّموا في السن، سيظلّون قادرين على الرقص والغناء والقفز في الحفلات والإعلانات، فيما تمسك أيديهم بزجاجة بيبسي أو كوكاكولا.
يمتدّ ذلك التحالف المادي الربحي بين الفنان والشركة، وانعكاسه على صناعة الذائقة، يمتدّ ليطال الأعمال الفنية التي أحببناها ويصيبها بالتشويه. ها هو «البيبسي مان» عمرو دياب يقف في حفل تكريم هاني شنودة الأخير في السعودية ليغني، بل ليطلق نشازاً: «وأطفال عجايز في مهد الطفولة، وأفلام قديمة، وإعلان.... بيبسي». استبدل عمرو دياب كلمة «كوكاكولا» كما كتبها مدحت العدل بـ «بيبسي»، لينتزع من أغنية رصيف نمرة خمسة إيقاعها، وسياقها الزمني كذلك. حين كتب العدل الأغنية في نهاية الثمانينيات، كان قد استلهمها من غزو الكوكاكولا للشارع المصري في أعقاب الانفتاح الاقتصادي على أميركا، ذلك المنتج المستورد الذي دمر المشروب الغازي الوطني في مصر مثل «السبيرو سباتس» و«الهاي سبوت». يمنح ذلك العقد «الفاوستي» بين الفنان والمنتج أكثر بكثير مما يقدّمه الفن للفنان أو المتفرّج، فالشركة تضمن لنجمها أن تضعه في الصورة دائماً وتسوق كليباته وألبوماته الجديدة. أتذكّر، مجدّداً، عام 2009، لم يطلق عمرو دياب حينها ألبومه قبل أن يُطلق إعلانه مع بيبسي بمقطع من أغنية «الله على حبك أنت» التي كان يضمها ألبومه الذي لم يكن قد صدر بعد. تولّت حملة بيبسي آنذاك التسويق للألبوم من خلال الإعلان الذي كان يعُرض في اليوم عشرات المرات، وبيعت بوسترات عمرو دياب «أصلعاً» للمرة الأولى وفي يده قنينة البيبسي، وجملة «الله على حبك أنت» في الخلفية. أتذكّره جيّداً لأنه كان معلّقاً على خزانة ثياب أختي الكبرى.