المأزق الأساسي في لبنان بسبب النظام المركزي يكمن، مثلاً، في أن ابن النبطية وعكار وكسروان والشوف وبعلبك، ليس لديهم كهرباء ومياه وجمع نفايات، بسبب خلافات بين ممثلي المجتمعات المختلفة، تظهر على شكل خلافات بين الوزراء والزعماء والرؤساء. فما المشكلة إذا سمحنا لكل هذه المناطق بتنظيم أمورها المعيشية بطريقة مستقلّة، أي أن يكون لكل بلدية استقلالية إدارة مسائل من هذا النوع (كهرباء، نفايات، مياه...) لوحدها أو مع بلديات مجاورة. هذا الأمر يتطلب منح البلديات استقلالية في تحصيل الضرائب وفرضها بما يتناسب مع حجمها وموقعها. وبذلك ننتقل من السلطة المركزية إلى اللامركزية المالية. لكن هناك طبقة ثانية من المشكلة تكمن في أن هناك مناطق تريد السماح بزواج مدني، مثلاً، بينما مناطق أخرى لا تريد السماح بذلك، ومناطق تريد السماح بالمشروبات الروحية وأخرى لا تريد... وهذا يتطلب أيضاً منح البلديات حريّة لتقرّر نمط العيش فيها بحرية وتنوّع تبعاً لخصوصياتها الثقافية والدينية والاجتماعية. وبذلك ننتقل من لامركزية مالية إلى لامركزية تشريعية، وهي باختصار الفدرالية.
الفدرالية تجمع بين اللامركزية الإدارية والمالية والتشريعية، وهي أسمى مظاهر اللامركزية. الفرق الأساسي بينهما، أنه بموجب اللامركزية تصدر السلطة المركزية القوانين وتوزّع الصلاحيات على الوحدات اللامركزية لتقوم بمهام معينة وبإمكانها استرداد هذه الصلاحيات والسلطات. أما في الفدرالية، فتجتمع مكوّنات بلد معين لتوزيع الصلاحيات على بعضهم البعض على أساس ما يمكن أن تقوم به كل منطقة أو مجموعة أو محافظة لوحدها أو بشكل مشترك مع غيرها. هناك إدارة مشتركة، مثل الجيش والعلاقات الخارجية، والتي تكون السلطة الفدرالية المركزية مسؤولة عنها، إلا أن هذه الأخيرة لا يمكنها أن تستردّ أو أو تمنع أو تغير القوانين التي بُني النظام الفدرالي على أساسها بين المجموعات المكوّنة للبلد.
من الضروري توضيح أن دستور أي بلد يجب أن يكون مرآة يعكس الواقع الاجتماعي للبلد وليس العكس. لكن في لبنان ومنذ عام 1926 ننقل دساتير الخارج إلى لبنان. بدأ ذلك عندما ساعدتنا دولة مركزية، هي فرنسا، فأعطتنا دستور الجمهورية الثالثة ونقّحناه من أجل دولة مركزية لبلد لا يفترض أن يكون متنوّعاً ومتعدّد الثقافات. في المقابل، عندما ركّب لبنان الكبير في عام 1926 صار يضمّ مجموعات ثقافية دينية متنوّعة (مسيحيون، سنة وشيعة ودروز...). الغلطة بدأت في ذلك الوقت، إذ كان يجب إنشاء دستور لامركزي فدرالي.
نحن في لبنان منذ أكثر من 100 سنة نمارس فدرالية مقنّعة؛ نتزوّج بـ 18 طريقة مختلفة، ونطلّق بـ 18 طريقة مختلفة أيضاً، وكل مجموعة لديها نظام توريث مختلف. ليس هناك بلد لديه سلطة مركزية في العالم يسمح بهذا الأمر. هناك مناطق تسمح ببيع وتقديم الكحول، ومناطق لا تسمح بذلك. هناك مناطق تسمح بلبس المايو للنساء، ومناطق لا تسمح بذلك... ليس هناك مشكلة طالما أن كل مجموعة تحترم خصوصيات المجموعات الأخرى ولا تفرض عليها خصوصية. صار الوقت لتنظيم التعددية، وننتقل من فدرالية مقنّعة إلى فدرالية مقوننة تحمي وتحترم خصوصيات كل المجموعات المكوّنة للبنان.


26 دولة
هو عدد الأنظمة الفدرالية حول العالم والتي يعيش فيها 42% من سكان العالم ومعظمها تعيش في بحبوحة واستقرار (كندا، أميركا، البرازيل، الإمارات العربية المتحدة...)، لكن ليس هناك نظام فدرالي في أي من هذا البلاد يشبه الثاني، لأن مواطني هذه البلدان اتفقوا على وضع دستور يشبه تركيبتهم وتنوّعهم، لكن الثابت هو أن هذه المجتمعات تعدّدية