لم يهدأ الكرّ والفرّ منذ بداية السنة على خلفية محاولة الملياردير الأميركي إيلون ماسك الاستحواذ على منصّة تويتر، حتى تحقّق حلمه أخيراً. مالك شركتَي «تسلا» و«سبايس أكس» كان قد تردّد في شراء عملاق التواصل الاجتماعي بعد محادثات حول عقد صفقة، وكادت الأمور أن تصل إلى المحاكم لولا أنّه عاد وحزم قراره، منفقاً 44 مليار دولار من ثروته الضخمة. وما إن حصلت الصفقة، حتى قرّر ماسك التخلّص من كبار الموظّفين، ولا سيما المدير التنفيذي.كلّ ما سبق حصل بسبب «فكرة» خطرت في بال الملياردير ذات يوم بعد تعرّضه لـتضييق من المنصّة على إحدى تغريداته، استدعاه أن يفتح النقاش حول حرية الرأي والتعبير على مواقع التواصل الاجتماعي. هذا الأمر بدا مثيراً للسخرية بعد «النكتة السمجة» التي تمثّلت في حجب حساب سكوت ريتر بعد أيّام فقط على «حلول» ماسك على الشركة التي تتّخذ من سان فرانسيسكو مقرّاً لها. ولئن نفى ماسك في تغريدة علاقته بأيّ حجب حصل بعد استحواذه على تويتر، مبرّراً أنّ الخوارزميات القديمة لا تزال فعّالة حتى الآن وتنتظر اجتماعاً في الشركة لاتخاذ الإجراءات بشأنها، إلا أنّ ذاك الحديث لم يشف غليل داعمي ريتر الذين اعتبروا أنّ كل عظات ماسك عن حرية التعبير ذهبت هباءً وأنّ حجب حسابه له أسباب سياسية بحتة.

بهرام أرجماندنيا ـــ ايران

سكوت ريتر ضابط استخبارات سابق في مشاة البحرية الأميركية ومفتّش أسلحة سابق لدى الأمم المتحدة، معروف بانتقاده المباشر لسياسة بلاده في أوكرانيا. كان ريتر قد حُجب للمرّة الأولى في نيسان (أبريل) الماضي، على خلفية اتّهامه الولايات المتحدة بتسعير الحرب في أوكرانيا ووصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بـ«مجرم الحرب»، فأعاد إنشاء حساب جديد بعد وصول ماسك، متسلّحاً بقول ماسك الذي انتشر بشكل واسع حول أنّ «الطير حرّ» (في إشارة إلى تحرير تويتر من سياسة القيود على المحتوى)، وفق ما شرح ريتر الأحد الماضي لبرنامج «موتس» الذي يقدّمه جورج غالواي عبر الإنترنت. غرّد ريتر على حسابه الجديد «بوتشا كانت جريمة حرب، أوكرانيا ارتكبتها» مع عبارة test، أي أنّه يمتحن تويتر وما إذا كان سيتمّ حظر صفحته مجدّداً أو لا. وبالفعل، حُجبت الصفحة من جديد، ليتأكّد المؤكّد.
«تمّ حظر سكوت ريتر لقوله الحقيقة عن الحرب لا لكذبه. لو كان مستعدّاً للكذب بشأن الحرب، لكان حصل على وظيفة في نشرات الأخبار. إيلون (ماسك) ينام في السرير نفسه مع الـCIA والـMIC. إنّه أوليغارشيّ وليس مناضلاً من أجل حرية التعبير كما هو مأمول. الحقيقة لا تمانع في أن يتمّ استجوابها، على عكس الكذبة». هكذا غرّد الكوميدي والناشط السياسي جيمي دور، الذي كان قد استضاف ريتر في برنامجه إبّان الحظر الأوّل. توالت التعليقات الرافضة لما حصل مع ريتر، غير أنّها لم تقترب حتى من ردّة الفعل الجماهيرية على حجب حساب الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب على وقع اجتياح مناصريه مبنى الكابيتول في الشهر الأوّل من العام 2021. أمر قد يبدو للوهلة الأولى مفهوماً بالنظر إلى أنّنا نقارن بين ضابط استخبارات سابق ورئيس جمهورية سابق، لكنّ ظاهر الأمور ليس كباطنها.
طرد دونالد ترامب لا يمكن وضعه في الخانة ذاتها مع ما يحصل بحسابات أخرى تُعتبر صغيرة، خصوصاً أنّ ماسك لمّح إلى أنّه قد يعيد تفعيل حساب ترامب قريباً. فحظر حساب ترامب كان سياسياً استعراضياً أتى ضمن الحملة الإعلامية ضدّه في داخل الولايات المتّحدة. أمّا حجب سكوت ريتر، فله أسبابه السياسية الأمنية المتعلّقة بالنظام والدولة العميقة وقلقهما من افتضاح كذبهما. فريتر يسمّى بالإنكليزية «مطلق صفّارة» (whistleblower)، أي أنّه يفضح الأمور كما هي (مثلما فعل غاري ويب وإدوارد سنودن وجوليان أسانج على سبيل المثال لا الحصر). طرد سكوت ريتر أعاد التذكير بطرد روبرت مالون من تويتر في كانون الأوّل (ديسمبر) الماضي. مالون مخترع تكنولوجيا mRNA المستخدمة في لقاح «فايزر»، كان قد أعاد نشر مقال يدّعي أن اللقاح «يضرّ أكثر ممّا ينفع»، ما تسبّب في حجب حسابه.
ما يعزّز أكثر التخمينات بخوف الدولة العميقة من هؤلاء المذكورين آنفاً، هو محاولتها تلبيسهم التّهم ذاتها عندما يصبحون «خطراً» بالنسبة إليها. فكما لوحق جوليان أسانج بتهم تحرّش تسبّبت في اعتقاله المستمرّ حتى اليوم ليثبت لاحقاً زورها وزيفها (أسقطتها السويد نفسها التي كانت وجّهت التّهم)، يتمّ استخدام حادث مماثل اليوم حصل مع ريتر على الإنترنت قبل أكثر من عقد حيث تواصل بطريقة غير لائقة مع فتاة لم تبلغ سنّ الرشد، لتبرير حجبه، رغم أنّ كلّ الإجراءات القانونية اتُّخذت بحقّه في حينها. طبعاً، نحن لا نبرّر بأيّ شكل من الأشكال جرائم التحرّش، إنّما نسلّط الضوء على استخدام جرائم مماثلة (وقعت أو لم تقع) كأداة ابتزاز سياسيّ بعد «نبش الأوساخ» كما يقول التعبير الأميركيّ، خصوصاً عندما يتعلّق الأمر بمصالح الدولة العميقة في الولايات المتحدة.
اللافت في الموضوع هو هويّة المحتجبين حديثاً التي لم تعد تنحصر بغير الأميركيين. فشعوب العالم، ولا سيّما تلك المتضرّرة من سياسة الولايات المتحدة نحو بلدانها وأوّلها الشعب الفلسطينيّ، اعتادت حظر حسابات تابعة لأشخاص أو كيانات معيّنين واتّخاذ قرارات تعسّفية بحقّهم، كما في حظر مثقّفين وناشطين فلسطينيين لمجرّد إبداء حبّهم لوطنهم، أو حجب حسابات قناة «المنار» اللبنانية منذ سنوات، أو التعتيم على منشورات قناتَي RT وSputnik الروسيّتَين كما صفحة Redfish شيوعية الهوى ووضع شارة تحت أسماء الحسابات الثلاثة تحذّر المستخدم من أنّ «الحكومة الروسية تتحكّم بها»، وكذا بالنسبة إلى صفحات صينية وإيرانية (CGTN وPress TV مثلاً)، مقابل عدم وضع أيّ شيء تحت أسماء وسائل إعلام مملوكة للحكومات الأميركية (كـ«الحرّة») والبريطانية والفرنسية والألمانية وغيرها، ومعروفة بكذبها وبامتهانها البروباغندا، وسبق أن فضحتها «ويكيليكس». هذه المعايير المزدوجة باتت تنطبق على صفحات أميركية إذا كان توجّهها اشتراكيّاً مثل Soapbox (المتوقّفة عن النشر حالياً)، أو إذا كانت تابعة لأشخاص ذوي تأثير معيّن يخالفون السردية التي تتناسب مع رغبات النخبة الأميركية والشركات التابعة لها، كما روبرت مالون وسكوت ريتر.
حجب حساب ضابط الاستخبارات الأميركي السابق سكوت ريتر المعروف بانتقاد سياسة بلاده في أوكرانيا


قد يناقش شخص ما بأنّ منصّات التواصل الاجتماعي مثل تويتر، شركات خاصّة «يحقّ لها القيام بما يحلو لها». غير أنّ هذا التبرير لا ينفع مع الأخذ في الاعتبار أنّ تلك المنصّات تقدّم ما يشبه الخدمة العامّة (كالمستشفيات والجامعات الخاصّة التي تخضع للقوانين) وأنّ تأثيرها على الوعي الجماعي ضخم وقد تحوّلت من مساحات لتبادل الآراء إلى أدوات للحكومة الأميركية في حربها على المعلومات. هي إذاً باتت طرفاً في الحرب الأوكرانية، مثلها مثل وسائل إعلام الغرب، تمنع أيّ نقد للسياسة الأميركية في أوكرانيا، مُعيدة إلى الأذهان سيناريو غزو العراق عام 2003 وإسكات الصحافيين الأميركيين المعارضين للاجتياح. قد يناقش شخص آخر بأنّ إيلون ماسك «تغييريّ». غير أنّه لا يهمّ أيّ لون «ماسِك» الموقع. سكوت ريتر لن يُسمح به على تويتر. لكنّ سُكوتٌ ريتر القسريّ سيُقابل بأصوات الآلاف الآخرين من أفراد الشعوب المهمّشة حول العالم.