بات مؤكداً أن الذكاء الإصطناعي، أو ما يسمى بالثورة الصناعية الرابعة، والطفرات التكنولوجية التي في كل ساعة تُشهدنا على ولادة ملايين من الخدمات والمنتجات الجديدة، ستؤدي إلى تحولات جذرية في أنظمة ومناهج التعليم في المستقبل. في موازاة ذلك، برزت ظواهر إقتصادية حديثة، كما في حالة «أوبرة السوق- Ubérisation du marché» (نسبةً إلى Uber)، وباتت أمراً واقعاً سيدفع حكماً نحو هيمنة أنماط محددة من الإنتاج والأعمال بما سيفرض توجهات أكاديمية مختلفة.
منذ تسعينيات القرن المنصرم استُقطِب عالم العمل بين، من جهةٍ، مَن يراكمون المهارات، ومن جهةٍ أخرى، من تصبح مهاراتهم منتهية الصلاحية بعد مدةٍ من الزمن. إلا أن ما نشهده اليوم يُنذر بما هو أعقد من ذلك، حتى في المجالات التي ظنناها محصنة نوعاً ما. ففي عام 1997 عندما أُذِل كاسباروف، بطل العالم حينها في الشطرنج، في مواجهته لحاسوب Deep Blue، كان ذلك إشارةً لبداية عهدٍ مختلف تكون فيه الآلة منافساً أو حتى شريكاً للإنسان. أما اليوم، فيذهب بعض الخبراء في الغرب إلى الإعتقاد أنه، وبحلول العام 2050، ستكون مثلاً كل العمليات الجراحية من نصيب «الروبوتات» لأنها ستكون أكثر دقة وفعالية من الإنسان! كما يذهب بعضهم للتساؤل إن كان الإنسان سيكتفي بمهامٍ «كإدارة» فرق آلية - بشرية او حتى بتحويله «تحري بيانات»...
إن التوجس من الذكاء الإصطناعي والخوف من تأثيره السلبي على سوق العمل البشري ليس إلا نتيجة حتمية، بالإضافة طبعاً للسياسات الإقتصادية العالمية غير العادلة، لعدم ترابط السياسات التربوية الحالية وتناقضها مع التحولات التكنولوجية والاجتماعية، تماماً كالمقارنة بين القاطرة البخارية والقطار السريع. لذا يجري الحديث حالياً عن ضرورة صياغة مستحدثة ومبتكرة لأنظمة ومناهج تعليمية تأخذ في الإعتبار الحاجة لمهارات وكفاءات تواكب العصر وتستشرف المستقبل. دينامية كهذه ترتكز بطبيعة الحال على تحويل مفهوم التعليم من «كيف نفعل» إلى مفهوم «كيف نكون» وذلك عن طريق، أولاً إيلاء أهمية أكبر لذكاء الإنسان العاطفي ولقدرته على «أنسنة» التقدم، وثانياً إغناء المناهج الحالية بالبعد الثقافي، المهارات الناعمة، والمعارف المتقاطعة، مع الإصرار على ما سيكون للإنسانيات من دور مفصلي في تحديد المسارات المهنية حيث أنها ستسهم بصقل شخصيةٍ مرنة، مبدعة ومبادرة.
في السياق نفسه، سيكون أيضاً البحث العلمي وفي شتى المجالات، ومنذ سنوات الدراسة الأولى، الركيزة التي من خلالها يُكتسب الحس النقدي، ويُحفَّز التفكير المنطقي والفضول العلمي، فضلاً عن كونه المحرك الأكثر فعالية في منظومة الإبداع والإبتكار. وهو، بلا منازع، دعامة التفوق البشري وما يضمن «سيادة الإنسان» على صنيعة يديه. غالباً ما يُنسينا الغليان التكنولوجي أنه لولا سنواتٍ وسنواتٍ من البحث العلمي، نظرياً كان أم تطبيقياً، لما خرج إلى الضوء اي منتج رقمي أو غيره. بلا ترسيخ منذ الصغر لقواعد البحث العلمي ومناهجه، لا إمكانية للحديث عن تطوير الأنظمة التعليمية بما يتلاءم مح تحديات الغد.
أسئلة عدة تُطرح عن كيفية إعادة تشكيل التربية والتعليم وعما ستحمل الهوية الجديدة للمدارس والجامعات من بعثٍ لعلومٍ أُهملت (لأسباب تحتاج وحدها لبحث مطول) كعلوم الإنسان والمجتمع والفلسفة والفنون وغيرها لصالح العلوم التكنولوجية البحتة. هل ستتقهقر النظريات التي أوصلت التعليم الجامعي إلى اعتماد مناهج أكثر تخصصاً وتفسح المجال لعودةٍ نحو تخصصات أكثر انفتاحاً على المعارف المتنوعة؟ هل سنشهد أيضاً على تنكرٍ للمبادئ التي توجب على الجامعة الإلتزام بمتطلبات سوق العمل لاستبدالها بأخرى تحثها على تخريج طلابٍ ذوي رؤية ومقوماتٍ تخولهم هم خلق أسواق عمل ومجالات تضمن قدرة البشر التنافسية مع الآلة؟
في لبنان، وفي يومنا هذا، هل نحن متمكنون من خلال نظامنا التربوي ومناهجنا الجامعية من مواكبة هذه التحولات لتهيئة أولادنا وإغنائهم بقدرات تتخطى المحتوى العلمي والتقني، لنجعلهم قادرين، لا فقط على التأقلم مع المتغيرات، بل أيضاً على أن يكونوا مبادرين وسباقين في استشراف الآتي؟ تساؤل يجول في أذهان المعنيين بالشأن الأكاديمي والبحثي لإيمانهم بثروة لبنان العلمية والبشرية وبأن لبنان ما زال قادراً على أن يكرس صيته كجامعة الشرق وأن يبادر عبر جامعاته لأن يتحول في محيطه الأورومتوسطي إلى منصةٍ للنقاشات التربوية، الأكاديمية والإجتماعية.
*باحثة ومديرة برنامج منح الدكتوراه في المجلس الوطني للبحوث العلمية