تتكاثر في لبنان وتكثر النباتات البرية، الطبية والعطرية، التي كانت وما زالت فِي الطب الشعبي وفِي علم الصيدلة مصدراً للأدوية وقايةً وعلاجات. تهتم الدول الصناعية بصناعة الأدوية من هذه الثروة الخضراء، كما تهتم المجتمعات الشعبية بها تراثاً نباتياً له قيمته في الاستشفاء. وقد أصبحت الأدوية من مصادر نباتية ذات أفضلية صحية في الاستعمال لندرة آثارها الجانبية الخطيرة أو المزعجة كما في الأدوية من مركبات اصطناعية كيميائية العناصر. وهنا نتساءل لماذا طغى الاستثمار الاستهلاكي على الاستثمار الإنتاجي في لبنان؟
ما لم تدمره الحروب تدمره اليوم سياسة إنتاج المزيد من الإسمنت لبناء المزيد من المشاريع الإسمنتية العشوائية المدمّرة للأرض والإنسان. فماذا يبقى من لبنان؟!

مهدّد بالزوال

الريحان البري هو من النباتات الطبيّة المهدّدة بالزوال. مساحة ريحانية كبرى (300 ألف متر تحت الطريق) على الساحل اللبناني ستزول إذا نفّذت شركة التطوير العقاري مشروعها في أملاك دير الناطور الذي يقضي أيضاً على أحراج السنديان والبطم والطيون والأعشاب البحرية الطبية التي تعيش بين أجران الملّاحات وعلى أطرافها.
وينمو الريحان البرّي في جميع أنواع التربة حتى ارتفاع ٨٠٠ متر فوق سطح البحر.
ويتكاثر بالبذور وبالتعقيل وبالترقيد. تنضج أثماره في الخريف ويحلو طعمها وتصبح صالحة للأكل بعد أن تأخذ لونها الأسود الباذنجاني (الصورة) وبعد أن ترويها شتوية تشرين الأول.

«ماء الملائكة»


مساحة 300 ألف
متر مربع من
الريحان مهدّدة


اسم الريحان العلمي العائلي: Myrtus وفِي الإنكليزية Myrtle وفِي الفرنسية Myrte وفِي الإسبانية Rayan وفِي اليونانية Myrthy وفِي التركية Myrthine. ومن أسمائه العربية الشائعة: حب الآس، رندة حنبلاس أو حملاس.
كان الآس آسي المتعبين وصديق الشعراء والملوك ورفيق الرهبان والنّساك. وهذا ما يفسّر انتشاره بكثرة قرب الأديرة والمناسك.
ورد ذكره في آيات من العهد القديم في الكتاب المقدس، وكان الأقدمون يستعملون خشبه بخوراً ويقدّسون ماءه المقطَّر شراباً يتناولونه في طقوسهم الدينية ويسمونه: "ماء الملائكة" لخصائصه الشافية من الأوجاع.
أما في علم الصيدلة الحديث فيستخرجون منه، بعد تقطير أوراقه وأزهاره، زيتاً عطرياً اسمه Myrtol، المعروف طبياً في تطهير جهاز التنفّس وتسهيل عمله وفِي تقوية مناعة الرئتين والشرايين والأمعاء.

فوائد طبيّة

يستخرجون في الكركة أيضاً من أوراقه الخضراء وأثماره السوداء الناضجة مادة عفصية قابضة ومطهّرة تدخل في تركيب أدوية ضعف المعدة وفِي حالات الإسهال والمغص والسعال والبرودة الداخلية وآلام الدورة الشهرية عند النساء. وفِي الطب الشعبي التراثي يُحَضّرون من أوراقه خلاصة مفيدة لتقوية الشِّعر ومنع تساقطه. كما يصنعون من رماد حرق أغصانه مرهماً لإزالة الكلف والتبقّع الجلدي الأبيض.
اتخذ الإغريق الريحان رمزاً للسلطة والمجد لأن أوراقه دائمة الاخضرار وتحافظ على شباب نضارتها حتى في عزّ الخريف. وصنعوا من أغصانه تيجان المنتصرين في المعارك، وللعرسان أكاليل في حفلات الزفاف. ولأن أزهاره البيضاء العطرة تتفتح في شهر آيار، فقد اتخذه الرومان رمزاً للحب والجمال، وقدموه إلى الآلهة فينوس. أما اليونانيون القدماء فكانوا يضعونه على القبور تكريماً للموتى... وهذا ما اعتاد عليه المسلمون في أعيادهم المباركة.

مركز تأمّل ومحطة للطيور

تعتبر المساحات الباقية من ريحان راس الناطور، حديقة برية عذراء وفيها أيضاً الكثير من النباتات.
ليس صدفةً انتشار الريحان أحراجاً ومروجاً عطرة خضراء في هذا المكان البديع والمميز. هذا المكان الذي يشكّل محطة للتأمل عند طالبي الهدوء والهاربين من الضوضاء لا سيما في المدن. كما يشكّل محطة لتكاثر الطيور وللملاحظة العلمية في نموذج بيئي نادر المثال في نوعه ومساحته على الشواطئ الشرقية للبحر المتوسط. فهل نحافظ عليه تراثاً أخضر عنده تاريخ إنساني وبيئة عذراء ذات قداسة روحية وموارد طبيعية ومناظر جمالية ونظام بيئي خاص Écosystème حيث تتخذ شجيرات الريحان من الصخور النافرة درعاً للاحتماء من ضربات العواصف، فتأخذ كل نبتة ريحان شكل الصخرة التي تحميها من هجوم الريح (الصورة المرفقة)!
فهل من إرادة علمية وسياسية وإدارية تحمي ريحان أحراج راس الناطور من هجوم المشاريع التجارية التي لا تحسب للبيئة ومواردها أي حساب؟!
ثم أليس تأجير أملاك دير الناطور إلى شركة تطوير عقاري غير مناسب للقيم، هو سوء إدارة استعمال هذه الأملاك الممتازة بنباتاتها وبملّاحاتها وبصخورها الجيولوجية وبالنظام البيئي والمعاني التراثية والروحية والإنسانية؟!




شركة التدمير العقاري


استأجرت شركة التطوير العقاري عام 2000 أملاك دير الناطور في أنفة بمساحة تقارب 900 ألف متر مربع، بين ملّاحات وأحراج وشواطئ. وقد تم استغلال أصحاب الملاحات وجعلهم يتخلون عن تلك الملاحات بدفع عشرة دولارات للمتر الواحد. كان المشروع قد تعدل بعد ذلك بسبب الاعتراضات البيئية عليه وبسبب الخلافات بين أصحاب الشركة أنفسهم. كما حصلت بعض التعديلات الشكلية في خرائط المشروع لاسترضاء بعض المعترضين. وبعد فترة تغيّر أصحاب المشروع وأعادوا الضغوط على من بقي من أصحاب الملاحات للتخلي عنها. مع العلم أن هذا المشروع، في حال نُفذ، لن يقضي على التنوع النباتي والبيولوجي فقط، بل سيحاصر دير الناطور التاريخي أيضاً!




مش تعبانين بدق ريحانو!


من العادات الشعبية المفيدة أنهم كانوا يدهنون جسم الطفل المولود حديثاً بدقيق الريحان ممزوجاً مع قليل من زيت الزيتون الخضير الفاخر. كما يتم "دق" الريحان في جرن الكبة أو في الهاون حتى يصبح معجوناً مثل المرهم بعد خلطه بالماء لدهن جسم الطفل، لاعتقادهم أن في دقيق الريحان خصائص التطهير واكتساب المناعة ضد الفطريات والالتهابات الجلدية والحكة والحساسية... وغيرها من مشاكل الجلد عند الأطفال.
هذه العملية متعبة لذلك يقول المثل الشعبي تعبيراً عن الاستهتار والإهمال والتبذير وعدم الحرص: "شو تعبان بدق ريحانو؟" أي أنه لم يتعذّب أو لم يتعب حتى يهتم ويحرص.