جوزف سماحة
«الحرب امتداد للسياسة بوسائل أخرى» كما يقال. لكن، في المقابل، يفترض بالسياسة أن تحاول ترجمة نتائج الحروب. تطبيق هذه المعادلة في لبنان يقود إلى كلام واضح: يجب أن يؤدّي الصمود في وجه العدوان الاسرائيلي إلى تعديل سياسي.
قبل الدخول في شرح منطق هذا المطلب، يُستحسن أن نعود إلى مرحلة ما قبل 12 تموز.
كان الوضع في تلك المرحلة غير طبيعي. يعني ذلك أن الحكومة كانت تستبعد قوة سياسية مركزية، «التيار الوطني الحر»، عن المشاركة في السلطة. ومشكلة هذا الاستبعاد، في الحالة اللبنانية الخاصة، أنّه يمدّد لأزمة انتفت أسبابها، أزمة المشاركة المسيحية في إدارة الشأن الوطني العام. تعود هذه الأزمة إلى ما بعد «اتفاق الطائف»، وتزداد إلحاحاً، من الانطباع المشروع لدى «التيار» بأن الملتحقين بقطار إخراج الجيش السوري من لبنان في ربع الساعة الأخير، أنزلوا منه مَن قاده لسنوات!
يمكن إيراد التبريرات كلها لعدم إدخال «التيار» في الحكومة. ويبقى أن السبب الجوهري هو محاولة الاستئثار بها، والتحكّم بمفاصلها، ومنع جهة تمثّل «احتمالاً رئاسياً» من أن تكون حاضرة فيها. لقد جرّت محاولة (مستمرّة) لتدفيع «التيار» ثمن إقدام آخرين على سرقة البند الأول في برنامجه و... علّة وجوده حتى عام 2005. إن ما بدا، لفترة، «تهميشاً سوريّاً» سياسياً لقادة مسيحيين تكشّف أنّه، أيضاً، قرار «سيادي»، وأن هناك، في الداخل، من يستمرئ هذا الوضع ولو على حساب متانة النسيج الوطني.
يمكن الرد على هذا الرأي بالقول إننا في بلد ديموقراطي، وإنّ ذلك يعني، تعريفاً، وجود سلطة ومعارضة، وإن العماد ميشال عون حاز شرف أن يكون قائد هذه المعارضة. الردّ، من حيث المبدأ، صحيح. لكن تنهض في وجهه حجّتان:
الأولى هي أنّ الأكثرية إنما هي أكثرية بحكم ما حصل في دائرة بعبدا ــ عاليه. ولقد ثبت، لاحقاً، أنّ نواب تلك المنطقة خانوا الأمانة الشعبية وارتدّوا عليها، ومارسوا نهجاً مخالفاً للتفويض الشعبي الذي أمّن لهم الفوز. أصبحوا نوّاباً باسم «التحالف الرباعي» ثمّ اكتشفوا أنّ الأصوات التي رجّحت انتصارهم هي أصوات «الجالية الإيرانية». ولما جرت محاولة للطعن أمام الهيئات المعنية، عُطّل المجلس الدستوري. هذا تزوير معقّد لجوهر العملية الديموقراطية. ولو لم يحصل هذا التزوير لما أمكن أن تكون هذه الأكثرية أكثرية، ولبطل، من الأساس، أي معنى لمنح عون جائزة ترضية: زعيم المعارضة!
الحجة الثانية هي تأليف هيئة الحوار الوطني. لم يكن ممكناً تأليفها من دون ضمّ «التيار الوطني» إليها. لقد أمكن، باسم الطابع البرلماني للهيئة، استبعاد ذوي تمثيل حقيقي (سليمان فرنجية مثلاً)، لكنّ هذا التجاوز بقي محمولاً بفعل حضور عون.
لقد عاش لبنان، لفترة، في ظل هذه الثنائية: الحكومة وهيئة الحوار. واللافت أن القوى التي دافعت عن هذه الثنائية كانت تورد تبريراً يهين ذكاء المواطنين: لا ضرورة لتمثيل «التيار» في الحكومة ما دام ممثلاً في هيئة الحوار. والإهانة في هذا التبرير، هي أنّه يجب تمثيل «التيار» في الحكومة بالضبط لأنه موجود في الهيئة.
في عودة إلى تلك الفترة التي تبدو الآن بعيدة، نتذكّر أنّ الهيئة ناقشت قضايا وطنية كبرى: العلاقة مع سوريا، السلاح الفلسطيني، الاستراتيجية الدفاعية... وصلت إلى توافقات في بعضها ولم تصل في البعض الآخر. ومع أهمية ما كانت تتولّاه الحكومة في تلك المرحلة، يجب الاعتراف بأن الهيئة تناولت القضايا ذات الصلة بالمصير الوطني وعناوينه المعروفة التي يمثّل الاتفاق أو الاختلاف عليها اختباراً فعلياً للبلد ومستقبله وموقعه.
... ثم جاء العدوان الإسرائيلي. والواضح أنّه «حدث» ذو صلة حيوية ومباشرة بجدول أعمال هيئة الحوار. لقد طرح على بساط البحث، بعنف، قضايا لبنان وإسرائيل، ولبنان وسوريا، ومزارع شبعا، والاستراتيجية الدفاعية، ودور الجيش، ومصير السلاح في الجنوب، إلخ...
لقد كان من البديهي، في مثل هذه الحالة، وبمسؤولية وطنية، إنهاء ثنائية الحكومة. هيئة الحوار لمصلحة الثانية، أي لمصلحة الجهة التي كانت تبحث في هذه المواضيع والتي تألّفت من أجل ذلك أصلاً. ولا ترجمة لذلك إلا بتعديل حكومي يُدخل «التيار» إلى السلطة. كان العدوان، في حدّ ذاته، يستدعي مواجهة له بحكومة اتحاد وطني أقرب ما تكون في تركيبتها إلى هيئة الحوار. لم يحصل ذلك رغم بديهيته.
ما فاتنا الإقدام عليه أثناء العدوان، بات ضرورة وطنية ملحّة بعده (هذا إذا كان قد انتهى) في ظلّ استمرار مفاعيله وانفجار هذا القدر الكبير من القضايا التي أثارها ويثيرها. أكثر من ذلك، إن الحصيلة الميدانية التي رسا عليها العدوان، توجب تعديلاً حكومياً فورياً.
لنتصارح بعض الشيء. لو نجح العدوان الإسرائيلي في كسر شوكة المقاومة لفتح باب محاسبة «المغامرين». وليس سرّاً أنّ هذا الشعار ارتفع صراحة في الأيام الأولى للحرب. والمحاسبة تعني تكريس ميزان قوى سياسي جديد مؤسّس على «الانتصار» الإسرائيلي. وبما أنّ إسرائيل فشلت في تحقيق أهدافها اللبنانية، فمن المنطقي أن يقود الوضع الجديد إلى نتيجة جديدة. إنّ من واجب المقاومة التجاوب مع كل طلب بإدخال تعديل على التركيبة الحكومية.
كذلك، من حق «التيار الوطني»، ومن أبسط واجباته، أن يلحّ في أن يكون حاضراً في السلطة التنفيذية وخاصة أنه أدّى دوراً استثنائياً في ممارسة قدر من التمايز عن الجميع وفي تصليب قدرة المجتمع على الصمود.
إن هناك من ينكر على «التيار» هذا الحق.
الحجة المستخدمة لهذا الإنكار، هي أنّ شعبية «التيار» انهارت. وهي حجة مستحدثة ولا تستقيم مع عزل «التيار» قبل الانهيار. أضف إلى ذلك أنها حجة مشكوك في مدى صدقيتها.
الحجة الثانية هي أنّ إدخال «التيار» إلى الحكومة يوازي نجاح «الانقلاب السوري». ويورد هذه الحجة من كان يقول إنّ «الانقلاب» نفسه لا ينجح إلا بالتفريق بين اللبنانيين.
والحجة الثالثة، وهي ما لا ينتبه قائلوها إلى مدى هزليتها، هي أن من المعيب طرح مثل هذه المطالب في هذا الوقت الحرج. إنها حجة التحريم والإدانة الأخلاقية التي تكشف القائلين بها. فهؤلاء يكادون يطالبون «التيار» بعدم التلوّث في وحول السياسة بينما ما يريدونه فعلاً هو حماية «المزرعة» باسم بناء «الدولة».
«التيار إلى الحكومة» هو شعار يفرض نفسه. ليس انقلابياً على الإطلاق. بالعكس. إنه إنهاء لحالة انقلابية. إنه عودة إلى حالة طبيعية. إنه خطوة أولى نحو الاعتراف بما حصل ونحو إلغاء حالة شاذّة.