غسان سعودحين بدأ السباق الانتخابي قبل بضعة أشهر، لم يكن معظم المعنيين بالانتخابات في دائرة بيروت الأولى يتوقعون أن الحديث عن معركة على المقعد الكاثوليكي في الأشرفيّة يمكن أن يبلغ مستوى جدياً كالذي يبلغه اليوم قبل ستة أيام من الانتخابات. فغالباً ما كان الصراع على المقعد الكاثوليكي أشبه بصراع على الوجاهة، من منطلق أن المرشح الكاثوليكي هو صاحب رأسمال، حيثيته مادية أكثر منها سياسية. وفي هذا السياق، لن يستطيع «ابن الصحناوي» ولا غيره من أبناء العائلات الكاثوليكية البيروتية الثرية منافسة «ابن فرعون» الحاضر في «الأعمال» وفي المجلس النيابي منذ ترشح هنري فرعون إلى الانتخابات عام 1929 عن منطقة زقاق البلاط في بيروت وفاز. وقد ازداد المشككون بهذه النظرية اقتناعاً حين تعرفوا إلى المرشح المنافس لفرعون، نقولا الصحناوي، متلمسين سعي الأخير وراء إعادة إنتاج مفهوم الزعامة الكاثوليكية في العاصمة عبر رفض الاعتماد على المال والإرث العائلي، والاعتزاز بأنه «عسكري عند العماد ميشال عون». إذاً، لم يكن أحد يعتقد أن المعركة على المقعد الكاثوليكي جدية، تماماً كما هي المعركة على المقعدين الأرمنيين والمقعد الماروني، حيث كانت الترجيحات تجزم بأن الطاشناق يفوز بالمقعدين الأرمنيين، مسعود الأشقر بالمقعد الماروني، وميشال فرعون بالمقعد الكاثوليكي، ويبقى نزاع على المقعد الأرثوذكسي بين نايلة تويني ومن يختاره العماد ميشال عون (وقد اختار لاحقاً نائب رئيس الحكومة اللواء عصام أبو جمرة).
لكن اليوم، ثمّة معطيات جديدة تجعل الصراع الأرثوذكسي عادياً جداً مقارنة بالصراع على المقعد الكاثوليكي. فالصحناوي الذي ظنَّ كثيرون أنه «اختيار خاطئ» يثبت زعامة فرعون الكاثوليكيّة، نجح بفرض واقع جديد يبدو مقلقاً بالنسبة إلى المحيطين بفرعون قبل أيام من الانتخابات، وذلك عبر 4 وسائل أساسية:
1ـــــ إجبار فرعون على الكلام السياسي، وهو الأمر الذي كان فرعون يتجنبه منذ انتخب نائباً على لائحة الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 1996 قبل أن يجدد الحريري الأب له عام 2000 والحريري الابن عام 2005. ولا يخفي الصحناوي أنه بذل جهداً كبيراً لإخراج فرعون من صورة النائب ـــــ رجل الأعمال، التي يتمسك بها، رغم أن دوره في المجلس النيابي سياسي بامتياز. ويشير إلى أن مجرد خروج فرعون من تلك الصورة وبدئه الكلام السياسي، وتبرير انتمائه إلى تيار المستقبل، أفقده إعجاب مجموعة كبيرة من الناخبين. وهو ما ينفيه أحد المقربين من فرعون، لافتاً إلى أن الموقف السياسي للأخير واضح، ويعرف جيداً كيف يدافع عمّا يؤمن به، لكنه كان يتحاشى السياسة على اعتبار أنها تفرّق أكثر مما تجمع.
2ـــــ فوز صحناوي بمباركة بعض رجال الدين الكاثوليك، ولا سيما المقربون من متروبوليت بيروت وجبيل للروم الملكيين الكاثوليك المطران يوسف كلاس، إضافة إلى لجنة الوقف في المطرانية ومعظم اللجان المتفرعة من المطرانية، وهو ما أفقد فرعون الغطاء الكنسي الذي كان يفاخر طوال عقدين بامتلاكه. وفي السياق نفسه، يسجل للصحناوي أيضاً نجاحه في كسب ثقة الوزير الياس سكاف وطمأنته إلى أن فوزه في الانتخابات لا يهدد زعامته الكاثوليكية، عكس فرعون، ما شجع سكاف على وضع علاقاته داخل الطائفة الكاثوليكية، وخصوصاً داخل «رابطة الروم الكاثوليك» بتصرف الصحناوي. وقد حاول فرعون تكريم بطريرك الكاثوليك والضغط على مطرانيته لحصار الصحناوي، لكن معظم محاولاته باءت بالفشل.
3ـــــ منافسته فرعون في الجو العام. وقد كان فرعون سابقاً وحيداً في العرين لا صورة تعلو صورته ولا صوت يعلو صوت أنصاره. لكن الأمور تتغير مع الصحناوي الذي حرص على منافسة فرعون في «الصورة من بعيد»، إذ بات العابر في الأشرفية يشعر بأن ثمّة تنافساً ولا شيء محسوم. وتجدر الإشارة إلى أن الأخبار المتداولة في الأشرفية عن صراع فرعون والصحناوي لرفع صورهما تبدو في أحد جوانبها مضحكة تبين حدّة التنافس بين الرجلين للفوز بالكرسي ذاته، وقد اعتاد كل منهما الحصول في حياته على كل ما يريده.
4ـــــ عدم الاستسلام خدماتياً وترك الملعب لفرعون وحده. ويشرح الصحناوي هنا أن ثمّة أشخاصاً يريدون من يسمعهم، ويساعدهم معنوياً لا مادياً. وثمة مواطنون يريدون طلبات بسيطة جداً يمكن توفيرها عبر الأصدقاء والمعارف، كفرص العمل مثلاً. وتالياً، مجرد افتتاح المكاتب والجلوس مع الناس «جعلنا في موضع المنافسين خدماتياً، مع العلم بأن مراقبتنا اللصيقة لفرعون ووجود قانون انتخاب صارم في ما يتعلق بالنفقات الانتخابية» حاصرا قدرات فرعون في هذه النقطة.
يبقى أن فرعون مطمئن إلى موقعه. اطمئنان يجعله يخصص معظم جهده لشد حليفيه نديم الجميل ونايلة تويني إلى جانبه. فيما يرى كثيرون أن اختراق فرعون وحده لائحة الأكثرية سيجعله يعيد حسابه السياسي، وخصوصاً أن انتخابات بلدية بيروت والمخاتير على الأبواب، وهي تعني الكثير للوزير السابق.
مع الأخذ في الاعتبار، ختاماً، أن مجرد منافسة الصحناوي لفرعون جدياً كما تبيّن آخر الإحصاءات هو بمثابة مفاجأة انتخابية، ومجرد منافسة المعارضة للأكثرية على مقعد بيروت الكاثوليكي يعني أن المقاعد الأربعة الأخرى ليست محسومة للموالاة.