حكاية زواج مصلحة: لا غرام ولا طلاق
لم تعد تركيا 2009 تشبه تلك التي كانتها خلال الحرب الباردة. لم يعد هناك اتحاد سوفياتي طامع بأراضيها وبمضيقَيها يدفعها إلى التقرّب من أي قوة أو حلف أطلسي أو جارة قوية، لمجرّد تأمين حماية ذاتية. ولم تعد كما كانت، دولة مرعوبة من جوارها العراقي أو السوري أو الإيراني أو اليوناني أو الأرميني، ما دفع بديفيد بن غوريون وعدنان مندريس إلى توقيع اتفاق ضد «الراديكالية الشرق أوسطية وضد التأثير السوفياتي» عام 1958. كما أن هذه الـ«تركيا» قررت بعد 2002، أن توسّع آفاقها، بالتالي فقد ارتأت التوقّف عن النظر إلى نفسها كدولة أوروبية لا تطيق جوارها «المتخلّف»، شأنها شأن رؤية إسرائيل لنفسها. من هنا، زال أيضاً الشبه المفتعل بين تركيا وإسرائيل كدولتين «ديموقراطيتين» وغربيتين في هذا «الشرق المظلم» (عامل كان أساسياً في التقارب المبكر بين الدولتين على قاعدة أنّ المصيبة تجمع). أضف أنّ تركيا، الدولة ذات الأعداء الذين لا يُحصون تاريخياً، باتت بلا عداوات تقريباً. وعندما تصبح دولة كتركيا بلا أعداء، تصبح حاجتها إلى السلاح والتدريب والتحالف الإسرائيلي، أقل بما لا يقاس مما كانت عليه أيام خلفاء أتاتورك.
من هنا، فإنّ جزءاً كبيراً من موجبات اتفاقات عام 1996 قد أصبحت أقل أهمية بالنسبة إلى المصلحة الوطنية التركية. لكن رغم ذلك، فإنها تبقى بحاجة إلى أن تكون دولة عسكرية عظمى، ببساطة لأن الترسانة العسكرية (التقليدية منها والنووية) هي من أهم معايير «الدول العظمى». ولأن السلاح ضروري، لجأت أنقرة منذ سنوات إلى خطوتين قد تبطلان قريباً مفعول الحاجة العسكرية لإسرائيل: نوّعت مصادر مشترياتها الدفاعية، ثمّ عملت على تعزيز صناعاتها العسكرية المحلية، حتى تمكنت قبل أشهر من تنظيم معرض عسكري عُدَّ من بين الأكبر في العالم. كلام لا يعني أن المناورات العسكرية بين هاتين الدولتين ستصبح في خبر كان، فالحلف الأطلسي، الذي تُعدّ تركيا أحد أعمدته، مصرٌّ على إشراك تل أبيب في نشاطاته العسكرية.
وبالنسبة إلى الهمّ الكردي، الذي عدّ طويلاً من بين أهم مبرّرات اتفاق التعاون الأمني الاستراتيجي بين إسرائيل وتركيا ومن أهم أسباب الصفقات العسكرية بينهما، فإن معالجته آخذة مع الوقت في التحول إلى القنوات السياسية بعيداً عن لغة المدافع. من هنا يمكن فهم تلميح وزارة الدفاع التركية، في أيار الماضي، إلى احتمال إلغاء صفقة شراء طائرات «هيرون» الإسرائيلية من دون طيار، التي كان الهدف منها النيل من الأكراد أساساً.
وإذا كانت غاية الغرام التركي ـــــ الإسرائيلي السابق، مصلحة اقتصادية، فإنّ لغة المال بالنسبة إلى الأتراك مجدية أكثر مع العرب والجوار مما هي عليه مع الدولة العبرية. حقيقة تؤكدها الأرقام، بما أن التبادل التجاري بين الدولتين يناهز الـ 3 مليارات دولار (جزء كبير من هذا الرقم نتيجة صفقات الأسلحة)، بينما الرقم يدور حول 9 مليارات دولار مع إيران وحدها، فكيف يكون مع العرب، الجيران منهم وغير الجيران، والخليجيين العائمين على النفط، وهم الذين باتوا مرتبطين منذ عام، برزمة اتفاقات وقّعها عبد الله غول مع مجلس التعاون الخليجي؟
في المقابل، لطالما ارتبط التواصل التركي ـــــ الإسرائيلي الدافئ، بهمّ أنقرة بنيل إعجاب الغرب، علّ ذلك يفيدها من ناحية تقديم شهادة حسن سلوك بالنسبة إلى أوروبا واتحادها. حكّام «العدالة والتنمية» لا يزالون يرغبون وبشدة في العضوية الأوروبية، لكن ليس عن طريق «الزحف» الذي لم يجدِ بعد رغم كل شيء. بناءً عليه، فهموا أن أوروبا تريد منهم طبعاً أن يكونوا على علاقة جيدة مع حليفتها إسرائيل، لكن ليس من الضروري أن يكون ذلك أبداً على حساب علاقات أنقرة مع بقية العالم.
وفي الداخل التركي، يدرك حكام «العدالة والتنمية» مدى أهمية الشعور الإسلامي لدى جمهورهم الذي انتخبهم جزئياً على هذا الأساس. ولما كان التاريخ أكبر دليل على مدى الحيّز الذي تحتله فلسطين وشعبها وقضيّتها في نفوس الأتراك، فإنّ حكام الحزب الإسلامي المعتدل يدركون بلا شكّ أن استمرارهم في الحكم يعتمد، في أحد جوانبه، على عدم الممالأة والزحف أمام «أعداء الإسلام». كلام اعترف به رجب طيب أردوغان عندما برر إلغاء مناورات «نسر الأناضول». كيف لا وهو شاهد أكبر التظاهرات المتضامنة مع الفلسطينيين والمعادية لإسرائيل، تنطلق، لا من القاهرة ولا من الرياض ولا من المغرب، بل من اسطنبول وأنقرة. ورغم ذلك، فإنّ أردوغان لا يتصرف كخليفة السلطان عبد الحميد الذي رفض بيع فلسطين للوكالة اليهودية عام 1909، رغم أنه ذكّر شمعون بيريز في منتدى دافوس، ربما تفادياً للتعرض لحملة «معاداة للسامية»، بأنه سليل سلطنة عثمانية فتحت أبوابها لليهود عندما تعرّضوا للقتل الجماعي والطرد في أوروبا عام 1492.
وبالحديث عن دور تركيا في القضية الفلسطينية، فإنّ القناعة التركية حازمة في أن حلّ الدولتين هو مفتاح استقرار المنطقة. هو دور حذر، يأخذ بعين الاعتبار الحساسيات التي قد تولَد عند دول تعتبر نفسها «أمّ الصبي»، أي مصر والسعودية. هكذا وجدت الدبلوماسية التركية نفسها مضطرة، في مساعيها خلال عدوان تموز، إلى مراعاة القاهرة والرياض، بعدما بدا أنها نالت تفويضاً سورياً بما يتعلق بمفاوضة حركة «حماس».
هكذا، يرتبط مصير العلاقات التركية ـــــ الإسرائيلية بالاستراتيجية التركية العامة، وبما يريد زملاء أحمد داوود أوغلو أن يكونوا عليه إقليمياً وعالمياً. انطلاقاً من ذلك، يصبح مرجّحاً أن يواصل حكام أنقرة سعيهم إلى ضبط العلاقات مع الدولة العبرية وتأطيرها، بحيث تتحول من علاقة «استراتيجية» إلى علاقة «طبيعية».
كلام يضربه عرض الحائط، المتحمّسون الإسلاميون وصقور الإسلاموفوبيا في الغرب وإسرائيل، الذين يجمعهم شعار أنّ تركيا قرّرت أن تعيد خلافة المسلمين إلى الآستانة، لتصبح غداً «إيران السنّة».