في عام 2012، كانت صالات السينما على موعد مع عرض الفيلم الأميركي «توتال ريكول»، الذي تدور أحداثه في نهاية القرن الواحد والعشرين، حول شركة تقدّم خدمة زراعة ذكريات اصطناعية. في العام نفسه، وليس بعيداً من هوليوود، في الجانب الآخر من الولايات المتحدة، كان باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا يجرون تجارب لزراعة ذكريات مزيفة في أدمغة الفئران، ونجحوا في ذلك.
من أدمغة الفئران إلى البشر، أحرزنا في العقود الأخيرة تقدّماً كبيراً في فهمنا لطبيعة الذاكرة، ما أتاح لنا الحديث اليوم عن إمكانية التحكم بها، وحذف ذكريات محددة أو تعديلها. كمٌّ من التراكم البحثي والتقني في مجال علم الأعصاب، كان حجر الأساس فيه حالة فريدة لمريض خضع لعملية جراحية دماغية، كانت نتائجها كارثية، وجعلت منه المريض الأشهر في تاريخ علم الأعصاب.

قصة هنري مولايسون

في عام 1953، وكعلاج لمرض الصرع الذي عانى منه منذ طفولته، خضع الأميركي هنري مولايسون لعملية إزالة الأجزاء المسببة لنوبات الصرع من الفص الصَّدغي في دماغه. نتيجة لذلك، فقد مولايسون نهائياً قدرته على تشكيل ذكريات جديدة، وبات ينسى الأحداث بمجرد حدوثها، والأشخاص بمجرد التقائه بهم. عاش مولايسون ما تبقّى من سنوات حياته يتعرّف في كلّ يوم على طبيبته المتابِعة له كأنه يلتقيها للمرة الأولى، في ما يشبه لحظة راهنة مستمرة، انتهت مع مفارقته للحياة في عام 2008.
هذه الحالة الفريدة غيّرت الكثير من المفاهيم السابقة عن الدماغ البشري، ودشّنت عصراً جديداً في بحوث الذاكرة. فبعد أن كانت النظرية السائدة تقول بأن الذاكرة غير محصورة بمنطقة محددة من الدماغ، تبيّن أنها مفصولة مكانياً عن الوظائف الدماغية الأخرى، الحسية والإدراكية، وأن مناطق من الفص الصدغي، وخصوصاً الحُصَين (Hippocampus)، تلعب الدور الأهم في تشكيل الذاكرة وتخزينها.

الذاكرة التي، قبل مئات السنين، شبّه أفلاطون أثرها في «الروح» بالأثر الذي يتركه الختم على لوح الشمع، بتنا نعلم اليوم أن لها آثاراً عصبية ثابتة، تسمّى بالـ«إنغرام»؛ أي إن كلّ واحدة من ملايين الذكريات التي نمتلكها موجودة على شكل تغيّر فيزيولوجي أو بيو-كيميائي يطبع مجموعة محددة من الخلايا العصبية الموجودة في أدمغتنا، والتي تتفعّل في كل مرة نسترجع فيها هذه الذكريات. يمكنك النظر إلى هذه المناطق من دماغك على أنها لوحات فسيفسائية تخزّن ذكرياتك على شكل شبكات عصبية حيّة، تتعدّل تشابكاتها في كل مرة يحدث فيها تشكّل لذكرى جديدة. على سبيل المثال، تمكّن باحثون من تحديد موقع الشبكات المسؤولة عن الذاكرة الاجتماعية في أدمغة الفئران، وأظهروا أن المجموعة نفسها من الخلايا العصبية تستجيب في كل مرة للفأر نفسه.
نظرياً إذاً، قد نتمكّن من التحكم بالذكريات عبر الوصول إلى الإنغرامات الخاصة بها والتعديل فيها، لكننا لم نرَ التطبيق العمليّ لذلك بوضوح مبهر حتى عام 2012، حين قام باحثون بالتلاعب بذكريات الفئران باستخدام تكنولوجيا جينية-ضوئية.

التجربة على الفئران

كما هي الحال في التجارب الكلاسيكية لدراسة الذاكرة، قام فريق بحثي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بوضع الفئران بشكل متكرر في غرفة تتعرض فيها لصعقات كهربائية، فتُظهر سلوك التجمّد المرتبط بالخوف. هكذا، تشكّل أدمغة الفئران ذاكرة تربط بين الغرفة والصعقات الكهربائية. الجديد في هذه التجربة هو أن الفريق أجرى تعديلاً وراثياً على الخلايا العصبية في حصين الفئران، بإدخال جين بشكل انتقائي على الخلايا التي تُظهر نشاطاً مرتبطاً بتشكّل الذكريات، وهذا الجين يؤدي إلى تشغيل الخلية العصبية كلما تعرّضت للضوء. في المحصلة، الخلايا العصبية التي حدث فيها تشكّل للذكريات أصبحت تمتلك ما يشبه زرَّ تشغيلٍ يعمل بالضوء. في اليوم التالي، وُضعت الفئران في غرفة آمنة، لكن حين تم استهدافها بشعاع من الضوء عبر ألياف ضوئية مزروعة في أدمغتها، أظهرت سلوكاً مشابهاً لما عاشته في الغرفة المثيرة للخوف، ما يعني أنها أعادت إحياء الذاكرة القديمة.
إذا كانت هويتنا هي السردية الذاتية التي تقدّمها لنا الذاكرة، عن خلفيتنا وتجاربنا واختياراتنا وأفعالنا، فهل يعني ذلك أن تعديل ذاكرتنا يمنحنا القدرة على تعديل هويتنا؟


باستخدام الضوء، لم يتمكّن هذا الفريق من إعادة إحياء ذكريات قديمة فقط، بل قاموا أيضاً بزراعة ذكريات مزيفة في تجربة لاحقة، جعلت الفئران يخافون من غرفة لم يتعرّضوا فيها لأي أذى. وفي عام 2015، نشر هذا الفريق دراسة في مجلة «نيتشر» توثّق تمكّنه من التخفيف من السلوكيات المرتبطة بالاكتئاب في الفئران عبر تنشيط الذكريات الإيجابية لديها بالتقنية ذاتها. علماً بأنّ المبادئ البيولوجية للذاكرة تتشابه بين القوارض والبشر، نتائج واعدة كهذه تحيي الأمل في إمكانية ترجمتها إلى الذاكرة البشرية، وهو مسار بحثي قد انطلق بالفعل.

ما التالي؟

قد تبدو نوعاً من الترف الفكري، لكن هذه المحاولات للتحكم بالذاكرة ربما لا يدرك أهميتها سوى فرد تعرّض لإساءة المعاملة في طفولته، أو مصاب باضطراب ما بعد الصدمة، أو غيرهما من ضحايا الذاكرة التي تمنعهم من عيش حياة طبيعية.
ولأنّه من غير المتاح إدخال تعديلات جينية كالمذكورة سالفاً على البشر، أو زراعة ألياف ضوئية في أدمغتهم، فضلاً عن تعقيداتٍ تتعلق بطبيعة الذاكرة البشرية التي تترك بصمات عصبية منتشرة في الدماغ، ولديها مكوّنات عاطفية وسلوكية، فإنّ التجارب السريرية لتعديل الذاكرة البشرية لا تزال في مرحلة جنينية. حتى اليوم، جُلُّ الدراسات في هذا المجال تعتمد على فكرة أن عملية استرجاع الذكريات هي عملية ترميمية، تكون الذكريات فيها عرضة للتعديل وإضافة تفاصيل جديدة، فيستفيد الباحثون من هذه الفرصة عبر دمج العلاج النفسي الكلامي بالعلاج الدوائي، باستخدام بعض الهورمونات التي قد تساعد في تثبيط الذكريات أو تخفيف الثقل العاطفي لها.
لكن فضلاً عن كل ما سبق، قد تفتح واجهات الدماغ والحاسوب باباً جديداً لتكنولوجيا دقيقة وفعّالة يمكن الاستفادة منها في تجارب تعديل الذاكرة. كبداية متواضعة جداً، هذا العام، استفاد باحثون من شرائح الدماغ المستخدمة لضبط نوبات الصرع، في تحسين الذاكرة اللفظية لدى المرضى، بحيث أدّى التنشيط الكهربائي لمناطق من أدمغتهم إلى تحسين أدائهم في تمرين تذكّر الكلمات.
لكن بعيداً من الجانب التقني، الذي قد يعتمد في المستقبل على الشرائح أو العقاقير أو التكنولوجيا الجينية، أو ربما غيرها مما سيتم تطويره لاحقاً، هناك مسألة أكثر عمقاً وخطورة تشغل بعض الخبراء: إذا كانت هويتنا هي السردية الذاتية التي تقدّمها لنا الذاكرة، عن خلفيتنا وتجاربنا واختياراتنا وأفعالنا، فهل يعني ذلك أن تعديل ذاكرتنا يمنحنا القدرة على تعديل هويتنا؟ كيف سيؤثر، مثلاً، حذف ذكريات جوهرية وأساسية في نظرة الفرد لذاته؟ وهل يكون حذف الذكريات المؤلمة العلاج الأفضل، أم تكون الآثار الجانبية أشد خطورة وتدميراً؟
في هذا الصدد، يقول المخرج الإسباني لويس بونويل: «سيتطلب الأمر أن تبدأ ذاكرتك بالتلاشي، ولو على دفعات وأجزاء، لتدرك أن الذاكرة هي ما يصنع حياتنا… ذاكرتنا هي ترابطنا، وتفكيرنا، ومشاعرنا، وحتى أفعالنا. من دونها، نحن لا شيء».

المصادر:

https://doi.org/10.1016/j.neuron.2008.12.023
https://doi.org/10.1126/science.aaf7003
https://doi.org/10.1038/nature11028
https://doi.org/10.1126/science.1239073
https://doi.org/10.1038/nature14514
https://doi.org/10.1038/s41586-019-1433-7
https://doi.org/10.1227/NEU.0000000000001818