عندما يقول الطبيب إن سبب الألم «نفسي» قد يبدو هذا طعناً في واقعية ما يشعر به المريض، أو اتهاماً له بالتوهّم بسبب المشاكل النفسية التي يعاني منها. لكن الحقيقة أن «الجسدنة» عملية حقيقية وواقعية، تنتج عن تحويل الآلام العاطفية والنفسية إلى آلام جسدية يشعر بها المريض فعلاً ولا يتوهّمها. كما أن تحويل الألم النفسي إلى ألم جسدي عملية غير واعية وخارجة عن سيطرة المريض.
حينما ترفض نفسك الكلام، وتكبت داخلها الوجع وترفض أن تُصرّح به، يُقرّر الجسد أن يتصرّف بدلاً منها فيصدر إشارات الإغاثة عوضاً عنها ليلفت انتباهنا بأنّ شيئاً ما ليس على ما يُرام. هذه الإشارات تكون على شكل ألم أو وجع متمركز في عضو أو منطقة معيّنة في الجسم لا سبب واضح لوجوده، وهذا ما يُسمّى بـ«الأمراض النّفس ــ جسديّة» أو «Psychosomatic disorder»؛ وهي الأمراض الّتي يشكو فيها المريض من أعراض جسمانية لا مُبرّر فعلي لوجودها لأنّ السبب الحقيقي وراءها نفسي لا عضوي.

ما هو هذا الاضطراب وما أسبابه؟
يقول الطبيب النمساوي الشهير سيغموند فرويد: «المشاعرُ المكتومة لا تموت أبداً، إنها مدفونةٌ وهي على قيد الحياة و ستظهرُ لاحقاً بطرقٍ بشعة».

تُعرّف الاختصاصيّة في العلاج النّفسي العيادي، الدّكتورة سلوى الحاج، الأمراض «السيكوسوماتيّة» على أنّها نوع من الاضطرابات لأمراض نفسية، وتُسمّى بحسب التصنيف العالمي «اضطرابات انفعالية وسلوكية ثانوية، ومصاحبة لاضطرابات فيزيولوجيّة»، إذ إن لفظ «سيكوسوماتية» يعني ازدواجية الجسم والنفس، ولأن النفس جزء من الجسم، ويشكلان وحدة واحدة، يؤثّر كل منهما على الآخر، وأي اضطراب يصيب النفس والدماغ لا بد من أن يؤثّر أيضاً على الجسد.

تُرجع الحاج الأمر إلى اختلال التّوازن في هرمونات الجسم بسبب التعرّض للضغوطات أو الصّدمات النفسية، وتحت تأثير الإجهاد ينتج الجسم هرمونات «الكورتيكوستيرويد» التي تقللّ من فعالية جهاز المناعة ممّا يؤدّي إلى اختلال شديد في وظائفه الحيويّة، عادةً ما يكون ذلك بسبب انفعالات شديدة جداً تؤثّر على توازن الجهاز العصبي اللّاإرادي، ما يوضّح أن هذه الأمراض ليس لها أي سبب عضوي، إنّما اختلال في وظائف الأعضاء نتيجة خلل نفسي انفعالي، لذلك لا تأتي الأدوية الكيميائية المعروفة بنتيجة في هذه الحالات.

تنتشر هذه الأمراض في بعض المجتمعات التى يكون فيها التعبير عن الألم النفسي أو المشاعر النفسية الحقيقية غير مقبول، تارةً باسم «العيب»، وطوراً تحت لافتة «قلة الأدب»، وأحياناً أخرى تحت وصف «الدلع»، فيضطر الجسم أن يعبّر عن الألم النفسي لكن بلغته الخاصة.

لا يوجد سبب واحد معيّن لظهور الاضطرابات النفس ــ جسدية الشكل. الأمر عبارة عن تفاعلٍ بين عوامل مختلفة تراكمت عبر السّنوات، كالصّراع الداخلي الذي يعيشه الشخص نتيجة ضغوطات نفسية وغياب التفهم أو الأشخاص الداعمين، المعتقدات الخاطئة التي تشكل جزءاً كبيراً من الضغوط الفكرية على الفرد، افتقاده للمرونة والنضج الكافي لمعرفة متطلبات الحياة، التعرّض للصدّ لأي شيء يمس احتياجاته وغرائزه الأساسية دون التمكن من إرضائها، افتقاد الشخص لمساحة الحرية التي يحتاجها في إدارة شؤون حياته الخاصة.

سبب آخر مهم، بحسب الحاج، وهو ما يوقف طموح الإنسان، كما في مجتمعاتنا وأحداثها الأخيرة! فمثلاً، الانهياران الاقتصادي والمجتمعي الّذين نعيشهما والتهديد اليومي في حياتنا قد أثّرت بشكلٍ كبير على قسم كبير من النّاس، وبتنا نلمس ذلك في العيادات النفسية لمّا صارت الأمراض والشكوى الشائعة مرتبطة بحدوث انفجار المرفأ وجائحة «كورونا»، والبعض اشتكى الخوف من الجوع، وهذه لم نكن نشهدها في السابق، ما يؤكد ارتباط المرض والأعراض الجسدية المرضية بالمتغيرات والظواهر البيئية.
وهذا ما تطرّق إليه فرويد بالقول: «الأعراض النفسية هي لأمراض اجتماعية»، ما يؤكّد تأثير المجتمع على حياتنا النفسية والجسدية.

معضلة التشخيص
يتردّد المريض إلى العديد من العيادات والأطباء بحثاً عن الرّاحة والعلاج لأوجاعه، وذلك بسبب التّشابه الشديد في الأعراض بين مرضٍ وآخر، وفي هذه الحالة يُلاحظ الأطباء ظاهرة شائعة جداً فى العيادات والمستشفيات، وهي أن المريض لا يشفى رغم صحّة التشخيص والعلاج، أو لا يكفّ عن الشكوى رغم شفائه فيزيولوجيّاً.

نجد في بعض الأحيان أن الطبيب يبحث عن أسباب فيزيولوجيّة متجاهلاً الجانب النفسي. إلا أننا بدأنا أخيراً نتلمّس تغيّراً في هذا الجانب؛ بات الأطباء يقومون بتحويل المريض الذي لا تظهر عليه أي أسباب ملموسة لشكواه إلى الطبيب النفسي أو المعالج النفسي المختصّ.
كما يؤثّر سلباً على نفسيّة المريض التردّد المستمرّ إلى الأطبّاء والخضوع للفحوصات والتحاليل الدوريّة وتناول العديد من الأدوية التي لا حاجة لها، الأمر الذي يزيد من خوفه وقلقه وتوتّره فيُفاقم بذلك الاضطراب الّذي يُعاني منه أساساً.

تؤكّد البحوث العلميّة في هذا المجال، أنّ تعرّض الشخص المضطرب «سيكوسوماتياً» لأحداث انفعالية تعجّل وتكرّر من ظهور الاضطرابات الجسدية لديه. وقد يقوم المريض بعملية إنكار ذاتي حول وجود العوارض النفس مرضية وإيعاز كل ما يحدث له إلى مشاكل جسدية بحتة.

تشرح الحاج أنّ المصاب بالاضطرابات النفس ــ جسدية قد لا يحتاج إلى الكثير، والسبب وراء كل ذلك قد يكون بسيطاً جداً، وهو أن الاحتياج النفسي الانساني الّذي عبّر عنه الجسد بالمرض لم يشبّع، كالحاجة إلى الاهتمام والتقدير والإصغاء أو الحاجة إلى الصحبة أو الإمساك بالمبادرة وإدارة الذات وتوظيف الطاقات، أو العثور على الصديق أو الحبيب والشريك المناسب. فيختار الجسد أن يعبّر عن النفس وحالة الضيق بمجموعة متفرقة من الآلام.

ربّما تعاني من الاضطراب ولا تدري!
الأمراض الجلدية، مرض السُكر، ارتفاع ضغط الدم، روماتيزم المفاصل، قرحة المعدة والقولون العصبي، اضطرابات الإخراج، السُّمنة، السرطان، الصداع النصفي، تساقط الشعر، الربو الشعيبي، الأوجاع العضلية والحسية، وغيرها الكثير...
قد يتراءى للوهلة الأولى أنّ هذه الأمراض كلّها تُعبّر عن أسباب فيزيولوجيّة، وقد تكون كذلك في معظم الأحيان، لكن في أحيان أخرى يكون منبعها الأصلي المشاكل النّفسيّة المتخفّية على هيئة ألم جسدي. هكذا تشرح الحاج بعض أشكال اضطراب «السيكوسوماتيك».

الجسد أصدق منّا، فهو عبارة عن أداة تعبيرية لا تعرف الكذب؛ فقد نقول إننّا مرتاحون لكن أقدامنا في حالة اهتزاز متواترة، وقد ندّعي القوة وفي الحنجرة ارتعاشٌ وفي الصّوت بحّةٌ، وتعبيراتٌ جسدية أخرى تتعارض مع أقوالنا.

كما أنّ للجسد ذاكرة، ما يعرف بـ«ذاكرة الجسد»، حيث يقوم بتخزين ذكرايات ومواقف وخلجات منذ الصغر على شكل طاقة في الجلد والعضلات وباقي الأعضاء، وكل عضو يحتفظ بالموقف الذي تعرّض له. تبدأ الأمراض من حیاة الإنسان المبكرة، أي طفولته التي ترتبط ارتباطاً وثیقاً بالحالة النفسیة للطفل وبمشاعر الخزي والخطأ ومشاعر الذّنب لديه.

الجسد أيضاً يؤثّر!
كما أن الجسد يؤثّر في النّفس عندما يمرض، فتصبح النفس في حالة مزاجية مرهقة ومحبطة وربما تشعر بالاكتئاب. ونظراً لأن الجسم والنفس وجهان لعملة واحدة، فعندما تئن النفس من الهموم يتأثّر الجسد تباعاً وكلّما تمّ إهمال الجانب النفسي ازداد الأمر سوءاً.