من التساؤلات الّتي تُثير اهتمام كثيرين حول جائحة «كورونا» هي ما إذا كان الفرد الذي أُصيب مرّةً أو أكثر بالفيروس، أو إذا كان قد تلقّى أحد اللقاحات، قد اكتسب جسمه مناعةً ضدّ الفيروس أو لا. فهل يجيب «اختبار المناعة» عن هذه التساؤلات؟

«روش» السويسريّة تُصدر اختبار الأجسام المضادة
طوّرت شركة «روش» السويسرية للصناعات الدوائية فحصاً يعتمد على الكشف عن الأجسام المناعية في عيّنة الدم لتحديد ما إذا كان الشخص قد أُصيب بفيروس «كورونا» سابقاً، وإذا كان جسمه قد تَحصّل على بعض المناعة ضده.

فحوصات الأجسام المضادة لفيروس «كورونا» لها وظيفةٌ واحدة مُجمع عليها علمياً؛ إذ صمّمت لاكتشاف استجابة مناعية متأخرة للفيروس، وهو ما يمكّنها من مساعدة المرضى على تحديد ما إذا كانوا قد أصيبوا بالعدوى من قبل؛ أي تشخيصهم بأثر رجعي.

كذلك يسعى هذا الفحص إلى الاكتشاف المُبكر لمن أُصيبوا بفيروس «كورونا»، ولم تظهر عليهم أيّةُ أعراض، أي لم يُدركوا إصابتهم، أو الذين لم يتمكّن فحص الـ PCR من اكتشاف تلك الإصابة لديهم، وفق مجلّة «Nature» الأميركية.

يبحث الاختبار في الدم عمّا يُسمّى بالأجسام المضادة، التي يصنعها الجسم عندما يحارب عدوى ما مثل فيروس «كورونا» أو أي فيروس آخر، كما وفي حالات تلقّي اللقاحات المختلفة. إلّا أنّ اختبار الأجسام المضادة لا يتحقق من الفيروس نفسه، وبدلاً من ذلك، فإنه يتطلّع لمعرفة ما إذا كان الجهاز المناعي قد استجاب للعدوى.

لذلك، يرى الأطبّاء والباحثون أنّ الفحوصات هي مجرّد تدوينٍ للمذكرات، وليست تنبؤاً بالمستقبل؛ النتائج التي تقدّمها تعطي لمحةً عن مسببات الأمراض التي واجهها المريض في الماضي، عوضاً عن توقّع الإصابات التي سيواجهها في المستقبل، تبعاً لما نُشر في مجلّة «ذا أتلانتيك».


ماذا تعني الأجسام المضادة وكيف تنشأ؟
بالاستناد إلى ما أورده موقع «مايو كلينيك» الأميركي، يمكن وصف الأجسام المضادة بأنها أشبه بـ«المحاربين» في جهاز المناعة، فعندما يصيب فيروس «كورونا» (أو أي مسبب آخر للمرض) جسم الإنسان، فإن الأجسام المضادة تلتصق بالنتوءات الشوكية على سطح الفيروس وتمنعه من دخول خلاياه.

تبدأ الأجسام المضادة بالظهور في الدم بمستويات يمكن اكتشافها بعد حوالى أسبوع أو أسبوعين من بدء العدوى. تصنّعها خلايا مناعية تسمى الخلايا البائية، ويمكنها القيام بمجموعة من وظائف مكافحة الفيروسات، بعضها تتعاون كفريق؛ إذ تتعلّق بمسببات الأمراض، لتدمّرها جزيئات أو خلايا مناعية أخرى. وبعضها قتلة منفردون، يلتصقون بالفيروسات بشدة إلى درجة تجعلها عاجزة عن دخول الخلايا البشرية.

مع إبادة الجهاز المناعي للفيروس، ستتراجع الخلايا البائية التي تتعرّف عليه، وتنخفض مستويات الأجسام المضادة. لكن عدداً قليلاً من الخلايا البائية المتبقية سيستمر في إنتاج عدد قليل من هذه الأجسام، لأسابيع أو شهور أو حتى سنوات بعد انقضاء التهديد الأوّلي، ما يترك آثاراً في الدم يمكن أن تلتقطها فحوصات الأجسام المضادة الحساسة بسهولة.

هل الاختبار مصدر ثقة؟
قد يوفّر وجود الأجسام المضادة للفيروس المسبب لـ «كوفيد-19» الحماية من الإصابة بالفيروس مرة أخرى، ولكن حتى لو حدث ذلك، فلا يمكن معرفة مقدار الحماية التي قد توفّرها الأجسام المضادة أو المدة التي قد تستمر فيها هذه الحماية.

يقول خبراء الصّحة في قسم المناعة والأمراض المعدية في جامعة «هارفرد» إن اختبارات الأجسام المضادة، أي الاختبارات المصمّمة لاكتشاف البروتينات التي أنشأها الجهاز المناعي والتي تحمي من الفيروس، ليست ضرورية ويمكن أن تكون غير موثوقة.

وقد شكّكت منظمة الصحة العالمية في استخدام اختبارات فيروس «كورونا» للدلالة على تحصين الأشخاص من العدوى أو وقايتهم منها، إذ إنّ وجود الأجسام المضادة في الدم لا يعني أنّ الشخص ما عاد معرّضاً للمرض. وبالنظر إلى أن ظهور الأجسام المضادة يتأخر عن ظهور الفيروس، لا يستخدم خبراء التشخيص فحوصات الأجسام المضادة للتحقق من وجود عدوى نشطة بفيروس «كورونا» المستجد.

تقول الاختصاصيّة في الأمراض الجرثوميّة والالتهابات ورئيسة قسم الأمراض الجرثوميّة في الجامعة اللبنانيّة الدكتورة رلى عطوي، إنّ مناعة الجسم ضد الفيروس تتكوّن من نوعين: مضادات وخليّة، والفحص يقيس المضادات فقط، وهي بدورها نوعان؛ نوع يخفف الفيروس والالتهاب، ونوع آخر لا تأثير له.

وبالتالي إنّ وجود المضادات في فحص الدم ليس بالضرورة أن يكون دليلاً على وجود مناعة كاملة ضد الفيروس. لكن يمكن اعتباره مؤشّراً لوجود المناعة، كما أنّ عدم وجوده لا يدل على عدم وجودها، فيمكن وجود نوع المناعة التي تعتمد على الخلايا، وهذه لا نستطيع قياسها في الفحص المخبري العادي.

إنّ مناعة الجسم ضد أيّ نوع من التهاب أو حتّى ضدّ أيّ نوع لقاح، تختلف من شخص إلى آخر، وذلك وفقاً للتركيبة الجينيّة لكل شخص وحسب طريقة تفاعل جهازه المناعي. وبالتالي، من الطبيعي أن تختلف ردة الفعل ضد اللقاح من شخص إلى آخر، وهي لا تعني بالضرورة أن تكون دليلاً لمشكلة ما أو مرضاً مناعياً، بحسب عطوي.

أهداف مغايرة
على غرار كلّ ابتكار أو اكتشاف في العالم، فإنّ فحص المناعة لم يكن استخدامه محدوداً فقط بالهدف المذكور، إذ إنّه بات يُستثمر لأهدافٍ متنوّعة وذات نطاق أوسع. في جميع أنحاء البلاد، توافد الناس على مواقع الفحص لتحديد ما إذا كانوا محصّنين ضد فيروس «كورونا» المستجد، أو حتى للحصول على نتائج يمكن أن تمنحهم الضوء الأخضر للسفر على متن رحلةٍ دولية. أمّا الآن، يقوم الناس بإجراء هذه الفحوصات للتحقق من عمل اللقاح الذي تلقّوه. حتى إن بعض الخبراء يناقشون إمكانية تحديد هذه الفحوصات للمرشحين الذين قد يكونون مؤهّلين لتخطّي الجرعة الثانية من لقاح «كوفيد-19».

وكما أوردت صحيفة «واشنطن بوست» الأميركيّة، فثمّة اهتمام أكبر بتحديد نوع معيّن من الأجسام المضادة التي يمكن أن تكشف إن كان الذي خضع لفحص يتمتّع بالمناعة تجاه الفيروس بعد تعافيه، فلا يُصاب به مرّة أخرى. واستثمرت العيادات والمختبرات المرتبطة مع شبكة المستشفيات في فيرجينيا وواشنطن وكنتاكي وميتشيغن وأوهايو، مئات الآلاف من الدولارات في التجهيز ودعم البنى التحتية من أجل تنظيم «فحص المناعة».

إنّ الأشخاص الذين يثبت الفحص وجود أجسام مضادة في دمهم لفيروس «كورونا» سيحصلون على «شهادات مناعة» تسمح لهم بالخروج من حالة الإغلاق واستئناف الحياة الطبيعية.

ومع ذلك، يستمر توظيف هذه الفحوصات لغايات خاطئة. لقد لجأت بعض البلدان، مثل البيرو، إلى هذه الفحوصات في محاولة أخيرة لسد فجوات التشخيص لديها، ما أدى إلى نتائج كارثية، وفي تشرين الثاني، أيضاً، بدأت الصين بمطالبة المسافرين جواً إلى الداخل بتقديم فحوصات أجسام مضادة سلبية للسماح لهم بدخول البلاد، رغم أن هذه النتائج لا يمكن أن تستبعد العدوى، ولا تضمن أن شخصاً ما ليس مُعدياً.

مناعة تلقائيّة
ما نعرفه حتى الآن هو أن اكتساب المناعة ضد «كوفيد 19»، يتطلب وجود أجسام مضادة في الجسم، أي أن يكون الشخص إمّا قد أصيب بفيروس «كورونا» ثم تعافى منه، أو أنه قد أخذ لقاحاً، لكنّ الخبراء يشيرون إلى مناعة أخرى «تلقائية» لدى البعض.

ويرجّح باحثون من معهد «فرانسيس كريك» وكلّية لندن الجامعية، أنهم وجدوا تفسيراً لقدرة بعض الأشخاص على التصدي لعدوى فيروس «كورونا» بشكل أفضل من غيرهم. وقام الباحثون، بحسب دراسة طبية نشرت أخيراً في مجلة «ساينس» العلمية المرموقة، في البداية بتطوير فحص ذي حساسية عالية لأجل رصد الأجسام المضادة لفيروس «كورونا» المستجد واسمه العلمي «سارز كوف 2». ويسعى الباحثون إلى معرفة المدة التي يظل فيها الشخص محصّناً ضد العدوى بعد التعافي من الفيروس.

وفي إطار هذه التجربة، استخدم الباحثون عيّنات مصليّة تم استخلاصها من أشخاص لم يصابوا بفيروس كورونا. والنتيجة كانت رصد العلماء لأجسام مضادة لفيروس «كورونا» لدى أشخاص لم يسبق لهم أن أصيبوا بالعدوى، وتفسيرها بوجود مناعة تلقائية في أجسام البعض ضدّ الفيروس.

لذلك، ووفق ما توصّلت إليه الدراسات، لا يمكن الاعتماد على اختبار الأجسام المضادة وحده كمعيار أساسي، بل يمكن أن يساهم في عمليّة الكشف عن الأجسام المضادة كعامل مساعد.
فقد تظهر نتيجة الاختبار الإيجابية عندما يكون لديك أجسام مضادة من عدوى بالفيروس المسبّب لـ«كوفيد-19». ومع ذلك، هناك احتمال أن النتيجة الإيجابية تعني أن لديك أجساماً مضادة من عدوى بفيروس مختلف من عائلة الفيروسات نفسها.

وقد يكون الاختبار سالباً لأنه يستغرق عادةً من أسبوع إلى 3 أسابيع بعد الإصابة حتى يتمكّن جسمك من إنتاج الأجسام المضادة. من المحتمل أنك لا تزال عُرضةً لتلقّي العدوى إذا تعرّضت للفيروس أخيراًن ما يعني أنه لا يزال بإمكانك نشر الفيروس أيضاً. كذلك يستغرق بعض الأشخاص وقتاً أطول لتطوير الأجسام المضادة، وبعض الأشخاص المصابين قد لا تتكوّن لديهم أبداً الأجسام المضادة.